الامن في عالم متغير

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2023-10-16 16:10:59

علي صادق

  يعد مفهوم الأمن من المفاهيم التي حظيت باهتمام كبير عبر مختلف مراحل تاريخ البشرية، لأهمية الأمن وارتباطه بمصالح وحياة الإنسان ووجوده واستمراريته ومن ثم البحث عن سبل الحماية من جميع المخاطر والتهديدات التي يمكن أن تُهدد حياته، وعلى هذا الأساس سعى الإنسان سواء على مستوى الجماعة أو الأفراد عبر مراحل التاريخ إلى العمل على تحقيق الاستقرار والأمن بالوسائل التقليدية من خلال التعاون والتنسيق فيما بينهم بحكم صلة الجوار والحفاظ على المصالح الحيوية المشتركة.

ومع تقدم الوقت شهد مفهوم الأمن تطوراً كبيراً وشاملاً عبر مراحل زمنية مختلفة، وتغير مفهوم الأمن التقليدي بشكل جذري بعدما كان قائمًا لعقود طويلة على استخدام القوة العسكرية الصلبة عند التعامل مع التحديات وإدارة المخاطر التي تواجه الدول والمجتمعات، لكن مع المتغيرات التي حصلت ينبغي إدارك اهمية التركيز على بناء نظام أمني شامل يمتد من منطقة الجزء - الأمن التقليدي (الأمن الصلب) إلى منطقة  الكل - الأمن غير التقليدي (الأمن المجتمعي)، وقد ساهمت العولمة بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية مع هذا التحول العلمي في مجال المعلومات والتكنولوجيا في هذا التغير الذي طال المفهوم.

وساهم هذا التغير في انتقال التهديدات الأمنية من وسائلها التقليدية إلى وسائل أكثر خطورة لا ترتبط بنمط التهديد العسكري التقليدي المباشر، وتعدد مصادر التهديد للأمن العالمي بدءاً بـ (الجريمة المنظمة، والتغير المناخي، والأمن السيبراني، وأمن الطاقة، والمخدرات، والفساد، وغسيل الأموال، والهجرة غير الشرعية...إلخ) وهذا يتطلب من الدول تنويع سياساتها واللجوء إلى أساليب  أكثر مرونة لمواجهة هذه التحديات والبحث عن أساليب علاجية تتناسب مع حجم هذه التهديدات والتغيرات التي طرأت عليها.

وفي ضوء الأحداث والتطورات التي شهدها المجتمع الدولي بدءاً من الحرب الباردة والنتائج التي ترتبت على تلك الحرب والتي أدت إلى نهاية وتفكك الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم وهيمنتها على النظام العالمي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، مروراً بالغزو الأمريكي للعراق وافغانستان وبروز ظاهرة الإرهاب والتطرف في العالم وسيطرة تنظيم داعش على مناطق في العراق وسوريا  وصولاً إلى الحرب الروسية الأوكرانية، جميع تلك الأحداث أثرت وبشكل مباشر على الأمن الدولي وفي عالم اليوم المترابط وعصر التكنولوجيا والتطور التقني، من المستحيل أن تحقق الدول الأمن من خلال التسبب في انعدام الاستقرار والأمن في البلدان الأخرى.

وتخبرنا التجارب التاريخية أن أي نجاح تحققه دولة ما على حساب مصالح دولة أخرى، لن يتميز هذا النجاح بالاستقرار والثبات والاستمرارية، ويمكن تطبيق ذلك على نماذج وقضايا متعددة تشهدها المجتمعات والدول اليوم بما في ذلك ظاهرة التقدم والتخلف، والفقر والغنى، والتمييز على أسس عرقية وطائفية فعندما تتسبب دولة ما في ارتفاع مستويات التخلف على حساب دولة أخرى، لن يكون من الممكن لهذهِ الدولة تحقيق الرخاء والتقدم لشعبها، لأن أي نجاح يأتي على حساب مصلحة الآخرين واستغلالهم لن يدوم طويلا، وفي عصر التحولات التي طرأت على المجتمع الدولي من التطورات التقنية والتكنولوجية وظهور العولمة التي أفرغت نتيجة التقدم الحدود الجغرافية والسياسية بين الدول من مضمونها، بعد أنّ كانت تلك الحدود تشكل أحد مظاهر سيادة الدولة الحديثة، ولم يعد الأمن مسؤولية فردية أو مسؤولية تقوم بها دولة واحدة، ولن تتمكن أي دولة من تحسين أمنها بمفردها فعندما يُنتهك الأمن في مكان أو دولة، فإن العديد من الدول إن لم يكن بعضها ستُعاني من حالة  الاضطراب وعدم الاستقرار وتأثر المصالح الاقتصادية والاستراتيجية لتلك الدول نتيجة عدم الاستقرار والاضطراب الحاصل.

ويمكننا أن نعد احتلال تنظيم داعش لمدن في سوريا والعراق وشمال أفريقيا مؤشرا للدلالة والكيفية التي امتدت بها تأثيرات التنظيم الإرهابي إلى مناطق في أوروبا ودول أخرى، حتى لو كانت بعض العمليات التي نفذت في بعض الدول في  شكل خلايا نائمة ومجاميع منفردة، وقبل أحداث 11 سبتمبر 2001، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعيش دائمًا شعورًا أنها في منطقة محصنة جغرافياً وبعيده عن الخروقات الأمنية لما تملكهُ من موقع جغرافي خلف المحيطات والبحار وهذا ما يجعلها بعيدة عن مناطق الصراع والنزاع في العالم فجاءت أحداث الحادي عشر من أيلول لتحدث تحولات في نمط تفكير العقل السياسي الأمريكي وتؤكد أنه سيكون في دائرة الضرر رغم الإمكانات الاقتصادية والعسكرية والاستخبارية والموقع الجغرافي الذي تملكهُ الولايات المتحدة.

من جانب آخر لم يعد من الممكن القول إن أمن العالم يأتي على حساب أمن ومصالح الآخرين وحتى الحرب الروسية الأوكرانية لم يكن لها آثار على طرفي الحرب فقط، بل كان لها تأثيرات على دول الشرق الأوسط ودول الاتحاد الاوربي  سواء من الناحية الاقتصادية او الأمنية والأمن الغذائي والطاقة والغاز،و يذكر وزير الخارجية الإيراني الأسبق "محمد جواد ظريف" انهُ على مستوى الأمن الدولي لم تعد هناك وجود لمعادلة واحد/ صفر او ابقَ انتَ في دائرة انعدام الأمن حتى أكون أنا في حالة أمن فيشير الى أن أي خرق أمني يحدث في جزء من العالم سيكون له آثار أمنية واجتماعية وسياسية واقتصادية على الجميع، وليس بمقدورك أنَّ تحقق المصلحة لنفسك على حساب مصلحة طرف اخر، ويترتب على ذلك  ضرورة التعاون مع كل من تشاركه في الرؤى والأصول والمصالح المشتركة.

وعند تحليل الأسباب الأخرى من المنظور النفسي لواقع الأحداث الدولية فإنها تعود إلى طريقة التفكير القائمة على نظام القوة أو حكم السلطة في العالم وغياب الدولة او الجهة التي تتحكم في ضبط القوة من أعلى النظام وتبسط الامن والسيطرة وتستطيع التحكم في قوة الدول في النظام العالمي وهذا يقود إلى الفوضى لأنه وبحسب ما يذكر جون ميرشايمر فإن الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي هي المسؤولة عن السلوك العدواني للدولة في السياسة الدولية لأن النظام الدولي نظام فوضوي والسبب هو عدم وجود قوة او جهة قادرة على حراسة النظام وحفظ السلام ومنع عدوان او اعتداء دولة على دولة أخرى وهذا ما يؤدي إلى التشجيع على تعظيم القوة من أجل بقاء الدول، وكل تلك الدول تمتلك قدرات عسكرية هجومية حتى وأنَّ كانت بدرجات متفاوتة ونسبية وهذا يؤدي في النهاية إلى تنافس أمني خطير بين الدول، ومن المحتمل أنَّ تؤدي تلك السلوكيات الى حدوث صراع واندلاع الحروب، وهي نفس الإرادة المرتبطة بالقوة.

وبحسب نيتشه فإن العالم طالما يعيش على النحو التالي حيث تكون الإرادة خاضعة للقوة، وطالما بقيت هذهِ المعادلة مهيمنة على بيئة السياسية الدولية ولا توجد جهة قادرة على السيطرة وضبط سلطة النظام من الأعلى وتحقق نوعاً من المساواة وتمنع الدول من مهاجمة بعضها البعض، فلا يمكن أن نتوقع من الآخر أن يستسلم بطريقة مضحية لأنها لا تملك القوة وحتى الدول التي لا تمتلك قدرات عسكرية واقتصادية كغيرها مثل القوى العظمى لديها أيضاً القدرة على المناورة والقدرة على الدفاع عن نفسها ضد أي هجوم ولذلك فإن الازدواجية بين أمن الكل أو عدم الأمن لا تخضع لموازين القوى وحدها، بل تستجيب علمياً لحقائق الواقع المتداخل بين جميع أنحاء العالم وقوة الضعفاء وسواء كانوا أفرادا او جماعات او منظمات او دول، فهي متجذرة أيضا في نمط من التفكير الفلسفي القائم على تقديس السلطة والارتقاء بها إلى مستوى المعيار الأول للسلوك السياسي.

والخلاصة التي يُمكن أنَّ نُشير إليها في الختام هي أنه مهما حاولت الدول الفاعلة في النظام الدولي تعظيم قوتها الاقتصادية والعسكرية وبناء مصالحها واستقرارها على حساب الآخرين، فإنها لن تنجح في ذلك دائما على المدى الطويل ولدينا تجارب متعددة تطرقنا إليها تعكس نمط هذا التفكير المغالط للواقعية فعندما يحدث خلل أو خرق أمني أو عدم استقرار في منطقة ما من العالم، فلن تكون حتى الدول القوية بمأمن عن ذلك الخطر وتضرر مصالحها، وهذا ما أثبتته العديد من التجارب وأبرزها العراق وأفغانستان، وسيطرة تنظيم داعش على مساحات واسعة في العراق وسوريا وشمال أفريقيا، وكيف امتدت آثار تلك الأحداث وأثرت على مصالح المنطقة والعالم بشكل عام.

حتى الحرب الروسية الأوكرانية التي تؤثر الأن على مصالح دول الشرق الأوسط ودول الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالاقتصاد والطاقة والغاز والأمن الغذائي، والخيار الأكثر اعتدلاً ومقبولية  هو الذهاب إلى منطقة قوية بدلاً من لاعب واحد قوي يفرض أمنه ومصالحه على مصالح وأمن الجميع حيث أنَّ الأمن الجماعي هو المناسب وليس محاولة فرض هيمنة طرف واحد على الاطراف الأخرى ايا كان هذا الطرف، والمنطقة القوية هي تلك الامم القوية والكبيرة وحتى تلك الدول التي لديها خصام تاريخي ويمكن لتلك الدول أنَّ تُساهم في تحقيق الاستقرار الاقليمي والدولي عبر إدارك وفهم واحترام مصالح الدول لبضعها البعض واي طرف يفكر بفرض الهيمنة دولياً او اقليمياً فسيؤدي هذا النمط من التفكير الى نشوب حالة اضطراب وعدم استقرار وهذا ماحدث في منطقة الخليج طيلة العقود الماضية عبر محاولة اطراف إقليمية ودولية وسعيها الى تعزيز سيطرتها حتى ولو بالقوة العسكرية الصلبة على المنطقة وهو ما أدى الى لجوء أغلب تلك الدول لسلوك سباق التسلح العسكري وهذا أبرز الأمثلة للخصام الغير بناء والمدمر والذي جعل العالم مليء بالحروب والنزاعات.

أشار محمد جواد ظريف في مؤتمر ميونخ للأمن " أنَّ على الدول أنَّ تكون أكثر واقعية وان تتقبل خلافاتها وتبتعد عن معادلة فرض الأمن  والسيطرة بالقوة والسعي الى تأسيس نقطة تفاهم مشتركة تكون قائمة على حفظ التوازنات والاحترام المتبادل لمصالح جميع الدول والتأسيس لشبكات تعاون ومنح دور حتى للدول الصغيرة عن طريق اشراكهم في ادوار ايجابية وبناء علاقات تعاون في قضايا امنية وعسكرية واقتصادية وبيئية وفي مجالات اخرى الطاقة والغذاء ومواجهة الجرائم المنظمة والفساد والمخدرات وغسل الاموال والهجرة غير الشرعية، أنَّ تحديد تلك الاهداف والمشتركات وبناء علاقات تعاون سيؤدي بالنهاية الى اتفاق ايجابي قادر على تعزيز وحفظ مكانة وامن وسيادة مصالح الدول"

المصادر

1_علي جواد كسار، ايران والملفات الكبرى، مركز رواق بغداد للسياسات العامة، 2021

2_عبد الفتاح علي الراشدان، تطور مفهوم الامن العالمي، دراسات العلوم الانسانية والاجتماعية، المجلّد 46، العدد 3، 2019

3_ محمد جواد ظريف ، مؤتمر الامن في ميونخ، تاريخ النشر 18/2/2018، متاح على الرابط : https://youtu.be/Njd1jKiguKU?si=4IKsDSG3G-uj2kVp