البيئة الاجتماعية والتغيرات المناخية : جدل التأثيرات المتبادلة

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2023-10-11 15:42:53

علي عبد الهادي المعموري

مدخل

على الرغم من أن التغير المناخي له عوامل بيئية عالمية لا تتعلق ببلد دون آخر، ضمن ظاهرة الاحترار العالمي وارتفاع مناسيب التلوث، إلا أن هناك عوامل أخرى تتعلق بالسلوك البشري في مجتمعات معينة، يسهم في مفاقمة مشاكل التغير المناخي، ويعرقل السيطرة على تدهوره المستمر، هذه الورقة وبالقدر الذي تشير فيه الى المنعكسات الاجتماعية للتغير المناخي، إلا أنها تناقش ما قد يسببه السلوك الإنساني في المجتمعات غير الصناعية بشكل مباشر في تخريب البيئة الطبيعية بطريقة تقود الى المزيد من المشاكل المناخية، عبر استقصاء ميداني يتخذ من العراق انموذجا بحثيا.

أولا: البيئة والانسان، في المسار السياسي

لعله من نافل القول الحديث عن العلاقة بين الانسان والأرض التي يسكنها، بين المجتمع وبيئته الجغرافية، وتكاد جميع المذاهب السياسية والاجتماعية أن تقر بعمق تأثير العوامل الجغرافية على المجتمع الإنساني، بين من يبالغ بهذا التأثير، وبين من ينزل به الى الدرجة الدنيا، ويرهنه بقدرة الانسان على تطويع البيئة التي يسكنُ، عبر العلوم وغيرها من أدوات التكيف.

بكل الأحوال، لا يمكن الفصل بين السلوك الإنساني والبيئة التي يسكنها، فالوفرة تنعكس على سلوكه الاستهلاكي، وقديما حدد النظام الايكولوجي شكل العلاقة بالسلطة، وأحوج بعض المجتمعات الى نظام سياسي مركزي قوي ليتحكم بتأثيرات تقلبات المناخ، مثل الفيضانات، والمواسم الزراعية، وطرق الري، الأمر الذي انعكس أيضا على سلوك بعض المجتمعات، بين التوتر والاسترخاء، تبعا لنظام الزراعة ومواسم الفيضان، والمثالين المصري والعراقي جليان في هذا المورد.

فضلا عن ذلك، فإن تعيين حدود الإقليم الذي تنشأ عليه دولة ما كان بؤرة الصراع على مد الأزمنة، صراع على الثروات التي تجود بها الأرض، وعلى المواقع الاستراتيجية للبلدان، حتى لقد صكت نظريات سياسية لا تزال لليوم فاعلة في حياة الدول، تغير الأوضاع، وتقوم على أساسها الحروب، ولعل الجيوبولتكس أوضح مثال عليها.

من جانب آخر، يكاد يكون الفصل بين سلوك الانسان وقدرته على التحكم بالبيئة ومن يؤثر بالاخر أكثر أمر بالغ الصعوبة، فالاعتمادية المتبادلة بينهما في غاية التداخل والتعقيد، ومن الصعب حصرها، او تبيان البادئ بينهما بالتأثير بالاخر، ويكاد الفصل النظري بينهما أن يكون مجرد فصل منهجي لأغراض الدراسة، وتحليل الموضوع، بكل الأحوال، تنطلق هذه الورقة من فرضية الاعتمادية المتبادلة، القائمة على أساس التوازن اللازم حفظه([1]).

ثانيا: التوازن البيئي.. السلسلة الحرجة

يقوم النظام البيئي على أساس من التوازن الدقيق، ومن المثير ملاحظة أنه باسثناء الانسان، فإن جميع المخلوقات تتصرف بشكل غريزي فيما يخص هذا التوازن، فلا يكاد العلماء ان يقفوا على أي خرق بيئي تقوم به الحيوانات، فهي تعيش على أساس الكفاف، والتوازن في الافتراس، وتشكل بعض الحيوانات ما يطلق عليه العلماء حلقة أساس في سلسلة التنوع الاحيائي، مثل الذئاب بين الحيوانات البرية، والقرش بين حيوانات المحيطات.

حتى النباتات، تشكل سلسلة معقدة من الاعتمادية المتبادلة، فلا يصلح إكثار نبات على حساب نبات آخر، على سبيل المثال، اقتلعت ماليزيا الاف الاشجار من الغابات المطيرة في اراضيها، وزرعت محلها نخيل الزيت ذي الأغراض الصناعية، وللوهلة الأولى، بدا أن خرقا لم يحصل، فقد تم استبدال شجرة بأخرى، ولكن على مدى السنوات اللاحقة تبين حجم الكارثة.

ان الأوراق المتساقطة من الأشجار تشكل حلقة مهمة في سلسلة الغذاء، فاليرقات والحشرات التي تتغذى عليها تشكل بدورها جزء مهم من سلسلة التنوع الإحياء، الحشرات تتغذى على الأوراق والطفيليات الأصغر منها، والطيور والحشرات الأكبر تتغذى على تلك الحشرات، وتمتد سلسلة الاعتماد الغذائي عبر الافتراس المتزن بدقة وصولا الى الثديات الكبيرة، وتبين بعد سنوات من زراعة نخيل الزيت حجم الكارثة التي حصلت، بسبب تدخل الانسان، وتلاعبه بالنظام الايكولوجي، المتزن بدقة الخلق البديع([2]).

 

ثالثا: المياه... القاتل المحيي

لعله من العسير على أي مخلوق ان يبين الدور المحوري للمياه في الحياة الإنسانية بتلك الطريقة التي وضعها الله سبحانه وتعالى بالاية الكريمة (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (الأنبياء 30) فالمياه ليست مجرد مورد تحتاجه الاحياء بالمطلق، حيوانات ونباتات، بل هي عامل محوري في قيام الدول، والمجتمعات الإنسانية بالمطلق، إنها حياة الانسان ونظمه لأمره عبر الدولة والمجتمع.

ومن التعقيد البالغ بشأن الماء أنه مورد لا يمكن استيلاده باعتماد المعادلة الكيميائية التي يقوم عليها (H2O) فمزج العنصرين بالغ الخطورة، شديد الانفجار، الأمر الذي جعل للمياه شخصية مستقلة عنيدة ربما يمكن تطويع مسارات تدفقها، لكن من الصعب جدا تطويع ذاتها المستقلة، المتوالدة بذاتها، للدرجة التي وصفها احد الفلاسفة المشتغلين بموضوع المياه بأنها (ثنائي مدمر، طموح، كريم، دائم التنقل)([3]).

وبالعودة الى ما ذكرناه عن علاقة طبيعة كل مجتمع ببيئته وانعكاسها على شخصيته، نعود الى المثالين المصري والعراقي، اللذان ارتبطا على الدوام بالانهار العظيمة في البلدين، النيل، ودجلة والفرات، بعجالة شديدة، فإن فيضان النيل في الصيف حيث الحاجة الماسة للمياه، صيّر الشخصية المصرية سلسة القياد، منبسطة غير متوترة، ولم تحوج الى دولة مركزية شديدة، ولم تشهد الحضارة المصرية حروب أهلية على الكلأ والماء، على العكس من العراق، بفيضان دجلة والفرات أوان الربيع، قرب موعد الحصاد، مما أحوج الى دولة مركزية شديدة، ونظام ري معقد، وسدود مترادفة تدعم بعضها البعض، بل سرعة جريان الفرات وتغييره لمساره بشكل دائم قاد الى عدم توالد مدن راسخة تراكم مدنيتها بتراكم السنين وثبات المكان([4]).

ثالثا: العراق.. نماذج معاصرة لعواقب التلاعب بالتوازن البيئي.

الى وقت قريب، كان النظام الاجتماعي العراقي في المناطق الزراعية قائم على توارث قيم راسخة بشأن البيئة والتعايش مع الحيوانات، ونظم الري والزراعة، الأمر الذي بدأ خلال العقود الثلاثة الأخيرة بالتهاوي، لأسباب متعددة، في طليعتها ضعف الدولة وقوانينها، والتبدلات الاجتماعية الحاصلة المرتبطة بالتبدل الاقتصادي، وحلول لعنة النفط والنظام الاقتصادي الريعي، وتنامي هوس الربح دون ضوابط، والانغمار في الحياة الحديثة بشكل كامل.

أمثلة حرجة

النخل والدوباس: وما دمنا نتحدث عن ارض السواد، العراق، الذي ارتبط الاسم فيه بوجود النخيل، الشجرة الحساسة والتي تحتاج الى عناية دائمة لتكون منتجة بكرم، والتي أصابتها في العراق كوارث متعددة المستويات، مثل الحروب والجفاف وسواها، ولكن هنا نذكر مثال عن الدور الإنساني السيء في قتل النخيل واصابته بالامراض.

تصيب النخيل نوع من الحشرات، كانت في السابق تخضع لعلاج محدود يقضي عليها، ويعين على مكافحتها في الازمة القديمة غياب الشمس، فهي تحب الضوء، وتحتاج له، وتتكاثر حيث يتكاثف الضوء، وكان الفلاحون قديما يسكنون بعيدا عن بساتين النخيل، او في بقع معينة، دون وجود اضاءة قوية، الأمر الذي تبدل في الوقت الحاضر، بازدياد قلع النخيل وبناء البيوت، واضائتها بشدة، الأمر الذي سبب تكاثر الحشرة المسماة محليا بـ(الدوباس) المعنية بهذه الفقرة، فازدادت صعوبة مكافحتها في ظل غياب المكافحة الشاملة عبر الطائرات، وفي ظل حزم الضوء الكثيفة التي تحتاج لها هذه الحشرة.

الخنزير.. المنظف الطبيعي: تتغذى الخنازير على كل ما تجده في طريقها من نفايات، وقديما لم يكن الفلاحون العراقيون يقتلون هذا الحيوان بكثافة، كانوا يبعدونه بالقدر الذي يقلل ضرره على المحاصيل في حركتها من شرق العراق الى غربه، باتجاه الفرات الأوسط والجنوب، وكان يتكفل بتنظيف طبيعي لكل المخلفات البشرية الضارة، ولكن في العقود الأخيرة، ومع انفلات السلاح، وتهاوي المنظومة القيمية الحاكمة بين الفلاحين، بدأت عمليات قتل واسعة لهذا الحيوان، بالطريقة التي قضت على منظف طبيعي فاعل.

الافاعي والطيور.. التوازن المحيي: شهد العراق في المدة الأخيرة تنامٍ كبير في أعداد الأفاعي القاتلة، ومنها افعى الحراشف المنشارية، التي تسمى محليا بأفعى سيد دخيل، وهي ناحية في محافظة ذي قار، وتصنف هذه الافعى بأنها خامس اخطر أفعى في العالم.

في العادة فإن المفترسات الطبيعية لهذه الأفاعي السامة وسواها كانت الافاعي غير السامة، وأهمها الحنش الأسود المسماة محليا بالعربيد، ناهيك عن الطيور التي كانت تفترس صغار الافاعي، سواء كانت طيور جارحة أو مسالمة، وبعد الاسراف في اصطياد الطيور للتسلية، وقتل فصيلة العربيد، ازدادت هذه الافاعي السامة حتى خرجت عن مناطقها الطبيعية بمئات الكيلومترات، الأمر الذي ارتبط أيضا بالتحطيب الجائر الحاصل على النباتات البرية، بما قاد الى انخفاض مناسيب الامطار، والتصحر، وفناء الحيوانات التي تتغذى عليها الافاعي البرية القاتلة([5]).

الخلاصة:

يقوم النظام البيئي على توازن دقيق، يقود كسره الى تفاقم المشاكل البيئية، ويسهم في ازدياد الكوارث المترتبة على التغير المناخي، وعلاج تداعيات هذه التغير يتطلب العودة الى القيم الاجتماعية السالفة التي تحترم الحياة، وتضع حدود للاستهلاك، وقوانين تطبقها الحكومة بصرامة.

 


([1]) للتفصيل ينظر: د. صادق الأسود، علم الاجتماع السياسي.. اسسه وابعاده، (بغداد: جامعة بغداد، 1991) ص167 وما يليها.

([2]) ينظر التقرير المهم: بيتنا، على الرابط: https://is.gd/YZtjOw

([3]) للتفصيل ينظر: إريك أورسينا، مستقبل الماء.. وجيز في العولمة، ترجمة محمد عبود السعدي (هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، 2009)، بشكل خاص الفصل الأول ص17 وما يليها.

([4]) حول تاريخ المياه ينظر: حمزة شريف، مياه الرافدين.. بين ماض قدسها وحاضر اهملها وتعسف عليها (بغداد: بيت الحكمة، 2021).

([5]) مقتطع من دراسة ميدانية اجراها الباحث في منطقة الفرات الأوسط.