مـحـاكـــــــم الـتـفـتـيـش صــورة مـن صـور الـتـطـرف الـعــنـيـف

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2023-08-07 14:19:42

 الباحث

د. محمد عباس اللامي

لعل من بين أبرز الجرائم الإرهابية التي يجب التوقف أمامها في التاريخ هي محاكم التفتيش ومن أكثر مشاهدها سوداوية هي ما قامت به تلك المحاكم في إسبانيا بعد سقوط الأندلس ، فقد ارتكبت بحق المسلمين الذين أجبروا على اعتناق المسيحية جرائم ما زال كثير منها خافياً إلى اليوم ، وما تم كشفه كفيل بأن تعتبر تلك المحاكم أحد أبشع صور التطرف التي عرفها العالم بعدما سلم أبو عبدالله الصغير* غرناطة في أعقاب صلح عقده مع فيرناندو، يتضمن السماح للمسلمين بممارسة شعائرهم وحماية مقدساتهم ، سرعان ما نقض الأخير العهد ، وبدأت محاكم التفتيش والتعذيب والقتل والنفي .

لتبدأ مأساة أهل الأندلس من المسلمين وحتى من اليهود لإجبارهم على الاختيار بين التنصر أو الموت ، لم يرغب الأندلسيون بالاندماج في المجتمع المسيحي وبقوا في معزل عنه يمارسون شعائرهم الإسلامية سراً ، وكي لا يتعرضوا لويلات محاكم التفتيش مارسوا التقية ، فاعتنقوا المسيحية ظاهرياً وأخفوا الإسلام[1].

اصبحت محاكم التفتيش السيئة الذكر مثلا يضرب على ذروة التطرف والتعصب وعدم التسامح ، وقد انشئت في اوائل القرن الثالث عشر بقرار من البابا جرينوار التاسع وذلك عام 1233 ومن أشهر الذين ماتوا حرقا المصلح التشيكي المشهور جان هوس* ومن اهم الذين مثلوا امام محاكم التفتيش أيضا الفيلسوف الايطالي جيوردانوبرينو** والعالم الشهير غاليليو، بل ان كوبرنيكوس* القائل بدوران الارض حول الشمس لم ينج منها إلا بسبب حذره الشديد ، فقد أجل نشر كتابه الذي يحتوي على نظريته الجديدة حتى يوم وفاته ولم تعترف الكنيسة الكاثوليكية بغلطتها في حق غاليليو إلا بعد مرور أكثر من ثلاثمائة سنة على محاكمته .

وقد استمرت محرقة محاكم التفتيش موقدة حتى القرن السابع عشر، بل وحتى القرن الثامن عشر. ولم ينطفيء اوارها الا بعد ان انتصر عصر التنوير على عصر الظلام وضيق الافق ، إن ما حصل للفيلسوف "ميشيل سيرفيه **" الذي أحرقوه حيا في جينيف بتهمة التشكيك بعقيدة التثليث ، وهي من العقائد الاساسية في المسيحية ، فبمجرد ان شكك بصحتها ألقي طعمة للنيران ولم يشفع له علمه ولا فلسفته ولا انسانيته وهذا يشير الى أن التاريخ الغربي  ممتلئ بالجماعات المتطرفة  قديماً وحديثاً وقد نشطت بمراحل مهمة في تأريخ الحركات الإرهابية والمتطرفة ، إلا أن عنف الإرهابيين في القرن التاسع عشر كان واضحاً ، حيث أستطاعو أغتيال قيصر روسيا (أليكساندر الثاني) ، و وزراء وكبار النبلاء والجنرالات والرئيسين الأميركيين (وليام ماكنلي في عام 1901، وقبله جيمس غارفيلد في عام 1881) ، وملك إيطاليا الملك أمبرتو، والإمبراطورة " زيتا " في الإمبراطورية النمساوية – المجرية ، ورئيس فرنسا سادي كارنو ، وأنتونيو كانوفاس رئيس وزراء إسبانيا – على سبيل ذكر ابرز الضحايا.

 إن الاستمرار في فضح خفايا الفكر الإرهابي المتطرف إعلامياً وثقافياً وأيديولوجياً والكشف عن الاتجاهات والخطط السرية والعلنية ومن جملتها عمليات غسل للأدمغة للجنود والتابعين ، وكذلك بحث نقاد ومختصين لإيجاد آليات تفكير جديدة ومبتكرة تكافح كل مخططات وتوجهات التطرف بشكل عام والتطرف الديني بشكل خاص كونه أخطر أنواع التطرف ، بالرغم من قدم حادثة محاكم التفتيش ، فما شهدته فرنسا و السويد والدنمارك مؤخراً  يقود الى إن المجتمعات الاوربية ما زالت تعاني من تلك الحقبة أسوة بما تشهده المناطق التي تعاني النزاع  ، فلا توجد مجتمعات مثالية على الارض ، وبالرغم من وضعها الخطط والاستراتيجيات لمكافحة التطرف العنيف المؤدي للارهاب لاستئصال تلك التراكمات الفكرية [2]. فالولايات المتحدة الامريكية بذلت جهود حثيثة  في أنشاء مراكز متخصصة ومتقدمة بمجال التعايش السلمي ونبذ العنف وخطاب الكراهية والعنصرية . 

لقد بدأ العمل ببرامج تجريبية محلية لأطراف معنية  متعددة في ثلاث ولايات هي بوسطن ولوس أنجلس ومينيابولوليس والتي تم الاعلان عنها وسط ترحيب كبير خلال قمة البيت الابيض لمكافحة التطرف العنيف التي أقيمت في شباط 2015 وقد بدأ المسؤولون في هذه المدن مؤخرا بتخصيص ميزانيات مالية لتنفيذ برامج تهتم بالوقاية للشباب ، في مجال الصحة العقلية والسلوكية والتطرف والسجون .[3] الا أن هذه الجهود ما زالت هشه وأمام أي هزة تطفو على السطح ، فلمدة ثماني دقائق و46 ثانية ظل الضابط تشوفين ضاغطا بركبته على عنق فلويد، بحسب تقرير ممثلي الادعاء، وقد توفي فلويد في الدقيقة السادسة مما أثار الشارع الامريكي بسلسلة من الاحتجاجات تسببت بإنفلات أمني ، كما دعى الرئيس الامريكي دونالد ترامب لاستخدام القوة لفض الاحتجاجات  واعمال التخريب ، وهذا ما يثبت أن هناك تباطؤ يحصل حتى في دول متقدمة كالولايات المتحدة الامريكية وفشل ادارة هذا الموضوع الذي أثر بشكل مباشر على الملف الامني والاقتصادي وحتى السياسي وهذا ما يثبت أن جهود المراكز التأهيلية كان ادائها متواضع كون العنصرية سلوك جمعي لا يمكن أن ينتهي ، ربما يخفت لفترة زمنية لكنه يظهر فجأة ليشعل حربا بربرية ، ممكن يتم معالجته لو كان يمتلكه أفراد، فكل اسود يعتقد أنه مضطهد ومحتقر ومعنف ، وكل أبيض يعتبر نفسه نوع رفيع [4] ، ترى الأمم المتّحدة وشبكة حقوق الإنسان الأمريكيّة أن " التمييز في الولاياتِ المتّحدة يتخلّل جميع جوانب الحياة ويمتد إلى جميع الأعراق غير البيضاء "[5] .

إن هذه المؤشرات تدعو لحث مراكز الابحاث و المنظمات الدولية والمحلية في جميع انحاء العالم لاستعراض شريط هذه الاحداث وتقييم تلك الاستراتيجيات و البرامج والتفكير بتطوير ما يمتن العلاقات المجتمعية والبحث عن كل ما هو مشترك بين الناس على اختلاف الوانهم واشكالهم ولغاتهم ، إن اعادة النظر بالمناهج التربوية وتعديل القوانين أصبح ضرورة في جميع دول العالم لرفض خطاب الكراهية والتطرف وهذا ما ينسجم مع بيان الجمعية العامة للأمم المتحدة في تبنيها لقرار يدين العنف على اساس الدين وضد الكتب المقدسة باعتباره انتهاكا للقانون الدولي ، والسعي لتنشئة أجيال تؤمن بالتعددية الفكرية والدينية و التخطيط لتفكيك كل ما يدعو للعنف والتطرف .

 

* أبو عبد الله محمد الثاني عشر (1460 - 1527) هو محمد بن علي بن سعد بن علي بن يوسف المستغني بالله بن محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف. من بني نصر أو بني الأحمر المنحدرة من قبيلة الخزرج الأزدية. ، ، حكم مملكة غرناطة في الأندلس فترتين بين عامي (1482 - 1483) وعامي (1486 - 1492). وهو آخر ملوك الأندلس المسلمين الملقب بـ:الغالب بالله. استسلم لفرديناند وإيزابيلا يوم 2 يناير 1492. وسماه الإسبان el chico (أي الصغير) وBoabdil (أبو عبديل)، بينما سماه أهل غرناطة الزغابي (أي المشؤوم أو التعيس). وهو ابن أبي الحسن علي بن سعد، الذي خلعه من الحكم وطرده من البلاد عام 1482، وذلك لرفض الوالد دفع الجزية لـفرناندو الثاني ملك أراغون كما كان يفعل ملوك غرناطة السابقين.

[1] محاكم التفتيش... «دواعش» القرون الوسطى، الجريدة للمزيد ينظر : https://www.aljarida.com/ext/articles/print جاكلين مارتان باجنوديز: محاكم التفتيش، الاسطورة والحقيقة، باريس.1992 ص97

* جان هوس ( 1271- ه 141): كان راهبا تقيا وعميدا لجامعة براج. وقد سبق لوثر إلى الاصلاح الديني بحوالي المائة سنة. ولكنه جاء قبل الاوان كما يقال ففشل وقتل. واما لوثر فجاء في اللحظة المناسبة ولذلك نجح. ولكن هناك علاقة وثيقة بينهما او بين افكارهما الاصلاحية ان لم نقل الثورية

** جيوردانو برينو: (1371-1415) فيلسوف ايطالي شهير. كان راهبا ايضا في البداية ولكنه انتقل من الدراسات اللاهوتية إلى الفلسفة فيما بعد. وقد اعتنق نظرية كوبرنيكوس عن دوران الارض على الرغم من انها كانت محرمة من قبل رجال الدين آنذاك. ولذلك لاحقوه وقبضوا عليه ثم سجنوه لمدة ثماني سنوات. وبعدئذ قطعوا لسانه واحرقوه بتهمة الكفر!

* هو راهب وعالم رياضياتي وفيلسوف وفلكي وقانوني وطبيب وإداري ودبلوماسي وجندي بولندي كان أحد أعظم علماء عصره. يعتبر أول من صاغ نظرية مركزية الشمس وكون الأرض جرماً يدور في فلكها في كتابه "حول دوران الأجرام السماوية". وهو مطور نظرية دوران الأرض، ويعد مؤسس علم الفلك الحديث

** ولد في 29 سبتمبر 1511، فيانويفا دي سيخينا، وشقة، إسبانيا - توفي في 27 أكتوبر 1553، جينيف، سويسرا) اسمه الحقيقي هو ميغيل سيرفيتو إي كونيسا. هو فيزيائي، طبيب، مترجم، وعالم دين إسباني، تضمنت اهتماماته العديد من العلوم: علم الفلك وعلم الأرصاد الجوية؛ والجغرافية، وعلم التشريع، ودراسة التوراة، والرياضيات، وعلم التشريح، الطب. يعد معروفاً في تواريخ بعض من تلك الحقول، خصوصاً في الطب وعلم اللاهوت

[2] محمد عباس اللامي ، تمظهرات التطرف في الخزف المعاصر ، اطروحة دكتوراه غير منشوره ، جامعة بابل 2023

[3] فيليب مارسيليو ، جهد حكومي تجريبي لمحاربة تجنيد التطرف في بوسطن ولوس أنجلس و بوليس يبداء ببطء منذ الأعلان عنه قبل ما يقارب السنتين ، يو أس نيوز ، 24 اذار 2016

[4] محمد عباس ، اللامي ، القوة الذكية في استراتيجية العراقية لمكافحة التطرف العنيف ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد 2022

[5]  "The Economist/YouGov Poll" (PDF). يوجوف. March 10–13, 2018. مؤرشف من الأصل (PDF) في 12 أبريل 2019. اطلع عليه بتاريخ 29 يونيو 2018.