الانسان يواجه المختبر ... مخاطر نقص الضوابط في العلوم الصرفة وتجلياتها في الذكاء الاصطناعي

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2023-07-10 12:29:46

علي عبد الهادي المعموري

منذ سنوات، يشتد الجدل بين بعض المتخصصين في العلوم التطبيقية من جهة وبين الفلاسفة المعاصرين والمختصين بالعلوم الانسانية من جهة أخرى، جدل حول ماهية الاخلاق، وهل يمكن للعلوم التطبيقية الصرفة أن تصنع منظومة أخلاقية تلائم الحياة الانسانية كما يقول بعض العلمويين الذين زجوا بانفسهم في غمار الحديث بالفلسفة والانسان، مثل عالم الاعصاب الامريكي سام هاريس وعالم الاحياء التطورية البريطاني ريتشارد دوكنز.

ويمكن لنا القول أن فريق العلمويين لم يقدم الحجج الكافية لدعم افكار منظريه بشن العلم والأخلاق، وهو ما سنناقشه في هذا المقال بشكل مقتضب، وصولا الى المخاطر الاخلاقية المترتبة على انعدام الكوابح في العلوم التطبيقية وتجلياتها المحتملة في الذكاء الاصطناعي.

العلمويون والاخلاق... حصاد اللاشيء

 يستخدم مصطلح العلموية لوصف اتخاذ العلم التجريبي كعقيدة شاملة لتفسير الكون والانسان، ووضع قيمة للعلوم التطبيقية تجعلها أعلى شأنا من بقية العلوم الاجتماعية، حتى تصبح المصدر الوحيد للمعرفة، وتقديمها بوصفها قادرة على تحليل وفهم مواضيع سياسية واجتماعية ليست في أصلها مختبرية ولا تجريبية.

ويصل البعض بتبنيه العلموية الى حد الدوغمائية*، وتجعل العلمويون بمرتبة واحدة في التعصب مع من ينتقدونهم، خصوصا من المتدينين المتعصبين، الذي يرفضون قبول الاخر، والاستماع الى وجهة نظره.

بكل الاحوال، يحاول بعض العلمويون التعمية على الفرق الاساسي بين العينة البحثية في العلوم الاجتماعية والعينة البحثية في العلوم التجريبية او العلوم الصرفة، فالعلوم الاجتماعية تتعامل مع الانسان، أي الموجود الأكثر تعقيدا، والأكثر تغيرا، الكائن الذي تتحكم بسلوكه وتصرفاته أشياء غير ملموسة، غير مادية، غير قابلة للقياس بدقة، ولا يمكن تكميمها، ولنا أن نسأل هنا، ما هي المشاعر؟ هل يكفي تفسيرها عبر وصفها بأنها شحنات كهربائية كما يقول علماء الأعصاب مثل سام هاريس؟ لماذا تختلف نتائج تفاعل وحركة هذه الشحنات من شخص الى آخر؟ ما الذي يشكل الدوافع الانسانية؟ هل يمكن وضع معادلة شاملة تصف سلوك كل انسان على حد سواء كما هو الحال في العلوم التطبيقية؟ التي تضع قواعد عامة تنطبق على جميع المواد وتتفرع عنها قواعد تصف المتغيرات البيئية الداخلة على التجربة.

في الحقيقة، هذه الأسئلة تشكل جزءا يسيرا مما يحاول دوغمائيو المختبرات القفز عليه والوصول الى نتائج قطعية بشأنه، بطريقة حولت العلموية الى دين نقيض، لا يقل تعصبا عمن تهاجمه العلموية عادة من أديان، وليس هذا محل نقاشها بالتفصيل، لكن يمكن القول أن محاولة زج العلوم التطبيقية في دراسة الظواهر الاجتماعية لا تزال غير منتجة، ولم تقدم نظريات متكاملة تتيح ازاحة نظريات العلوم الاجتماعية عن مكانتها الأصيلة كعلوم تفسر السلوك الانساني والمجتمع، ويكمن السبب في أن العلموية تحاول تقديم نتائج قطعية في المجال الاجتماعي والانساني على اساس بعض التجارب المحدودة، أو غير الدقيقة، او المرتبطة بعينة انسانية بحثية محددة، تختلف ظروفها عن ظروف غيرها من المجتمعات الانسانية.

من جانب آخر، في الغالب، يخضع العقل الانساني الى المنهج العلمي الذي يتدرب عليه، على سبيل المثال، الطريقة التي يتم بها تدريب الضباط في الجيش؛ تجعلهم يتصرفون بطريقة موحدة خاضعة الى ضوابط معينة حتى في سلوكهم الشخصي خارج المعسكر، مما يجعلهم أقل انساجما مع غير العسكريين في محيطهم الانساني، وغير قادرين على بناء شبكة علاقات انسانية خارج الضوابط العسكرية.

ولعل الأمر ذاته يتكرر مع محترفي العلوم التطبيقية، الذين يقضون حياتهم بين المعادلات والمختبرات، يسعون خلالها للوصول الى نتائج قطعية عبر التجارب المختبرية، تجارب يتم اختبارها مرارا وتكرارا حتى تصل الى النتيجة النهائية، وفي هذا المسار، يبتعدون عن قراءة العلوم الاجتماعية، والفلسفة، وبشكل تدريجي، يفقدون القدرة على اطلاق أحكام نسبية، ويغرقون في قطعية الآراء حتى فيما يخص علاقاتهم الانسانية او تفسيرهم لمحيطهم الانساني، المنزوين عنه وعن ملاحظته بشكل مباشر، ويصبح الانسان بالنسبة لهم معادلة رقمية لا تقبل الخطأ، أما الظروف فهي متغيرٌ يمكن تفسيره وتلافيه بالتجربة اللاحقة، وهو أمر خاطئ بشكل كبير حين نحاول تطبيقه على الانسان.

يرافق هذه الدوغمائية المختبرية سلوك من التعالي على العلوم الاجتماعية ـ في الغالب نتيجة العجز عن فهمها أو اجادتها ـ ومحاولة تجاهل الشك العلمي الملازم للعلوم الانسانية، وتجاهل الاجابة على التساؤلات التي يطرحها المتخصصون فيها، ناهيك عن العجز عن فهم هذه التساؤلات، التي تضع كوابح اخلاقية ستعرقل الطموح العلمي غير المحدود الملازم للعلوم التطبيقية، والذي يجد في القواعد الاخلاقية معرقلا له، الأمر الذي سنتلمسه بوضوح فيما يخص الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المتنامية.

الذكاء الاصطناعي.. اوبنهايمر يقرع ناقوسه من جديد

تتجلى "الدوغمائية المختبرية"  اليوم بشكل كبير بين حملة لواء الذكاء الاصطناعي، الذين يتجاهلون المحاذير الاخلاقية، ويصرون على الذهاب الى المدى الأبعد في استخدام الذكاء الاصطناعي، ومحاولة المزج بين الجسم البشري وما تنتجه المختبرات الى درجة تركيب شريحة الكترونية في دماغ الانسان كما يعتزم ايلون ماسك فعله، دون أي التفات الى المخاطر الاخلاقية  المترتبة على هذا التطرف العلموي.

ومن نافل القول ذكر أهم الكوارث الاخلاقية التي سيسببها الذكاء الاصطناعي؛ ونعني الغش العلمي وغبن جهود الباحثين، وهو أمر استفاض العلماء والفلاسفة المعاصرين في نقاشه، ولكن ما نود ان نشير له هنا يتعلق تحديدا بكوارث أخرى يبدو أنها وشيكة الوقوع في العراق، بطريقة تهدد الأمن الوطني العراقي، وتنذر بمستقبل مرتبك.

ويمكن القول أن التوسع في التدريب على استخدام الذكاء الاصطناعي سعيا الى مواكبة التقدم  العالمي، وعلى الرغم من الإيجابية المنطوية عليه، إلا أنه يتضمن مخاطر كامنة قد تكون لها تداعيات تهدد الامن الوطني العراقي على المستوى البعيد، فبرامج التدريب المقتبسة من المنهجيات الغربية لا تتضمن ما يتعلق بأخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي، التي لا تزال غير ثابتة حتى في الغرب، ويمكن تلمس هذه المخاطر بملاحظة التداعيات التي سببها التوسع في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي دون ضوابط اخلاقية، فكيف سيكون الأمر مع تقنيات اكثر تعقيدا مثل تلك التي يتضمنها الذكاء الاصطناعي؟

والأمر الأكثر خطورة هو الحديث عن امكانية الاستغناء عن الطريقة التي ابتكرها العراقيون في التعلم، وهي طريقة الاستاذ والطالب، وأن بإمكان الذكاء الاصطناعي إنهاء هذا التقليد التاريخي في التعلم، والحقيقة أن هذه الدعوة بالغة الخطورة، فعملية التعلم لا تشمل نقل العلوم وتنمية المهارات العلمية في حقل التخصص وحسب، بل تمتد الى مديات أعمق غورا، تتمثل بعملية التنشئة، التي تعني نقل القيم عبر الاجيال، وتتم عبر نواقل اساس هي الاسرة، وجماعات الاقران، والمدرسة، والتقنيات الحديثة في التواصل.

إن دور المعلم والاستاذ الجامعي يمتد الى بناء وصقل شخصية المتعلم، ودمجه ضمن المنظومة الاخلاقية الاجتماعية التي يعيشان ضمنها، وبناء هويته الوطنية، وتوجيه ذاته بمسارات مركبة، تشمل تدريبه على مواجهة التحديات، والتكيف لتعقيدات الحياة، والاندماج مع مجتمعه، وبناء علاقاته الانسانية، ناهيك عن وضع وتطوير المعايير الاخلاقية عبر التراكم الحضاري، وغيرها، فهل سيتمكن الذكاء الاصطناعي من تقديم هذا الدور الخطير في عملية التنشئة؟ في بيئة مفتوحة غير منضبطة مثل التي نعيشها؟ أم أننا سنستورد أيضا القيم التي يضعها رواد الذكاء الاصطناعي الطموحين على السواء مع استيرادنا التطبيقات العملية له؟

هذه المخاطر التي يتم تجاهل الحديث عنها في ذروة الانبهار بتقنيات الذكاء الصناعي ومحاولة زج العراق بشكل سريع فيها تجعلنا نتذكر صرخة مهندس القنبلة النووية روبرت اوبنهايمر بعد أن شاهد الانفجار الأول للقنبلة فقال مرعوباً: يا ألهي ماذا صنعت؟

هذا ناقوس خطر يدق، ويجب أن لا يترك القرار بشأنه لمجموعة من الهواة او التقنيين غير العارفين بالانسان والمجتمع الانسانية، الذين لا يدركون كيف تصنع الهوية الوطنية، وكيف تبنى شخصية الانسان، إنها قضية معقدة، مستوياتها مركبة، اجتماعيا ونفسيا وسياسيا وقانونيا وتربويا واقتصاديا وغيرها، وهي تمس صميم استقرار الأمة عبر مفصل بالغ الحساسية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الدوغمائية: كلمة من اليونانية تعني الجمود العقائدي "مذهب أو رأي" التأييد الأعمى لمبادئ أو مطالب مذهب أخلاقي ما، بدون إمعان والنظر فيها، وبدون تفهم قيمتها الاجتماعية، وبدوون دراسة الحالة الملموسة، وبدون مراعاة العواقب الاجتماعية التي قد تنجم عنها، نقلا عن المعجم المعاصر.