الصين في الشرق الاوسط/ واقع ومستقبل

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2023-06-01 09:22:37

 قتيبــــــــــــــــــــــــــة جابر باقر

16/ ايار/ 2023

بعد عقود من استجابة القيادة الصينية لنصيحة "دنغ شياو بينغ" (سياسي ومنظر قاد الصين بين عامي 1987-1992)  بأن (تخفي قوتها، وتتحمل الوقت، ولا تأخذ زمام المبادرة أبدا)، قررت على ما يبدو أن لحظة دخولها إلى دائرة الضوء كمحور عالمي قد حانت بعد عقود من تنامي اقتصادي وتطور تكنلوجي يشهد له العالم باسره.

تكيف العديد من دول الشرق الأوسط مع الظروف الاستراتيجية الحالية (بما في ذلك ظهور إيران بشكل أساسي كقوة عسكرية ونووية) وتركيز الولايات المتحدة على مواجهتها مع روسيا في أوكرانيا ومنافستها المتصاعدة مع الصين، اعطى فرصة للشرق الأوسط لإدارة شؤونه بشكل صفقات براغماتية هادئة وعلاقات تتناسب مع الظروف الإستراتيجية المتغيرة.

تعتبر الصين ثـاني مسـتهلك للـنفط عالميا (بعد امريكا وتليها اليابان والهند) وتعتمد على نفط الشرق الاوسط بشكل كبير، لذا فإنها لا تتوقف عن عقد صفقات تؤمّن لها البترول مع إيران والسعودية (اكبر مصدري الـنفط لهـا) والعراق، وقد تقرر الصين تسوية مشترياتها من النفط والغاز من المملكة العربية السعودية بـــ(الرنمينبي) كما فعلت مع روسيا، وبالنظر إلى أن الصين تمثل 15٪ من الطلب العالمي على النفط، و 10٪ من تجارة النفط العالمية، فقد تنجذب الدول الأخرى المنتجة للنفط إلى الترتيب نفسه.

إن تنامي نفوذ الصين في الشرق الأوسط تثير قلق امريكا، فقد أعربت عن قلقها بشأن اعتماد تقنية (Huawei 5G) في الشرق الأوسط، وإنهم ينظرون إليها على أنها منشأة أمنية صينية، وأن التعاون مع الصين يمكن أن يقوض علاقات دول الشرق الاوسط مع أمريكا.

ربما لا توجد صورة تجسد الديناميكيات المتغيرة في الشرق الأوسط أفضل من صورة شمخاني (سكرتير مجلس الأمن الإيراني)، والعيبان (وزير الدولة السعودي)، وهما يتصافحان في بكين مع كبير الدبلوماسيين الصينيين محتفلين بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين الخصمين، حيث أن كلا الجانبين كان لهما أسبابه لمتابعة التقارب، فكانت الصفقة مهمة بالنسبة لإيران المعزولة بشدة (بسبب العقوبات الأمريكية) حيث يمثل الاتفاق احد شرايين الحياة الاقتصادي الذي تحتاج إليه، في وقت تحاول السعودية اعادة ترتيب علاقاتها في الشرق الاوسط، وكسب فترة راحة من الحرب بالوكالة ضد إيران في اليمن.

يعد الاتفاق الذي تم الإعلان عنه بين إيران والسعودية بوساطة عراقية دؤوبه استكملتها الصين لاستعادة العلاقات الدبلوماسية أحدث علامة على أن الصين تشق طريقها نحو الدبلوماسية الدولية، ويرى البعض في الصفقة دليل على تضرر علاقات الولايات المتحدة ونفوذها في الشرق الأوسط. فامريكا لم تكن لتتوسط أبدا بين الإيرانيين والسعوديين، بالنظر إلى أنها كانت تعزل إيران بالعقوبات لسنوات عديدة، لذلك فإن هذا الواقع يمنح الإيرانيين أيضا حافزا قويا لاغتنام أي فرصة لإغراق أمريكا، و إبراز أوراق الاعتماد الدبلوماسية للصين في الشرق الاوسط.

لم يكن ممكنا تخيل السعودية، الشريك الاستراتيجي لأمريكا منذ فترة طويلة، ان تنضم إلى منظمة اقتصادية وأمنية بقيادة الصين وروسيا. ففي اذار 2023 ، وقعت المملكة على مذكرة تفاهم تمنحها وضع (شريك الحوار)  في منظمة شنغهاي للتعاون وهي الخطوة الأولى نحو العضوية الكاملة. تم وضع أسس منظمة شنغهاي للتعاون في الثمانينيات، عندما كان الاتحاد السوفيتي والصين يحاولان التغلب على التوترات على حدودهما المشتركة. بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، في عام 2001 ، اتفق ما يسمى بخمسة شنغهاي (جمهورية الصين الشعبية، والاتحاد الروسي، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان) على تجاوز ترسيم الحدود وتجريدها من السلاح لتعميق التعاون الإقليمي، وتضم اليوم مجموعة شنغهاي الخمسة ايضا (الهند، وباكستان، وأوزبكستان) ومن المتوقع أن تنضم إيران هذا العام. ولدى المنظمة أيضا تسعة شركاء حوار (أرمينيا، وأذربيجان، وكمبوديا، ومصر، ونيبال، وقطر، وسريلانكا، وتركيا، والمملكة العربية السعودية حديثا)، مع خمس دول أخرى شرعت في نفس المسار تتمتع ثلاث دول (أفغانستان، وبيلاروسيا، ومنغوليا) بوضع مراقب. وينص الميثاق على التعاون الأمني ​​باعتباره أمرا محوريا لغرض المنظمة، ويقوم أعضاء المنظمة بانتظام بإجراء تدريبات عسكرية مشتركة ومكافحة الإرهاب، على سبيل المثال من المقرر إجراء تدريبات مشتركة لمكافحة الإرهاب في أب 2023 في إقليم تشيليابينسك الروسي.

يمثل اتفاق السعودية مع منظمة شنغهاي للتعاون نجاحا مهما للصين في الشرق الاوسط، والتي تسعى إلى تعزيز نفوذها الجيوسياسي وتحدي النظام الدولي الحالي الذي تقوده الولايات المتحدة. كان الاثر لهذا الجهد الدبلماسي حاسما، ولا ينبغي أن يتفاجأ أحد إذا ما وضعت الصين نصب عينيها قريبا التوسط في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لان النفوذ الاقتصادي للصين هو الذي يجعل مثل هذه الإنجازات الدبلوماسية ممكنة. على سبيل المثال في 27 اذار (قبل يومين من توقيع السعوديين على مذكرة منظمة شنغهاي للتعاون) أعلنت شركة النفط العملاقة المملوكة للدولة أرامكو السعودية أنها استحوذت على حصة 10٪ في شركة رونغشنغ الصينية للبتروكيماويات المحدودة، في صفقة قيمتها. 3.6 مليار دولار. وافقت أرامكو السعودية (التي كانت تزود الصين بالفعل بأكثر من أربعة أضعاف كمية النفط الخام إلى الولايات المتحدة) على إمداد مصافي التكرير في الصين بـ (690) ألف برميل من النفط الخام يوميا.

تبحث الصين في العراق عن مصـالحها وفـي مقـدمتها الحاجـة المتزايـدة للـنفط رغم أنه ليس مصدرا أساسيا لكن يضل فاعلا ومؤثرا بالنسبة لها، حيث يمتلك العراق خامس أكبر احتياطي نفطي في العالم، وموقعا جغرافيا استراتيجيا في قلب الشرق الأوسط ويدخل ضمن نطاق المبادرة الصينية (الحزام والطريق) والتي تشمل 125 دولة وتعتبر العراق حجر زاوية للسيطرة على التجارة بين اسيا واوربا وممر شحن لنقل بضائعها لدول كثيرة في المنطقة، وهناك مواقف تعزز العلاقات ايضا حيث الغت الصين80% من ديون العراق البالغ حجمها 8.5 مليار في عام 2010 ، وبلغ استيراد الصين 27% من إجمالي نفط العراق في عام  2018 ، و قرابة 44% في عام 2021 لتحتل المرتبة الأولى عالميا في طلب البترول العراقي.

يحتاج العراق الى 88 مليار دولار لإعادة بناء بنيته التحتية المتهالكة وفقا لتقديرات خبراء البنك الدولي بعد القضاء على داعش، ففي عام 2019 اعيد للواجهه اتفاق 2015 بين العراق والصين الذي لم ينفذ بسبب التوترات السياسية التي عاشها العراق في حينها، حيث وقع رئيس الوزراء الاسبق اتفاقية (النفط مقابل إعادة الإعمار) مع الصين، مقابل مشاريع بنى تحتية وخدمات عامة مختلفة، ومن أسباب تطور التعاون الاقتصادي بين العراق والصين ان الاخيرة بعكس امريكا والغرب  تعقد الاستثمارات دون أن تفرض شروطا على العراق، كتحقيق المزيد من الديمقراطية أو اتباع سياسات إصلاحية هيكلية للاقتصاد المحلي، لذا فإن الصين تبدو أكثر جاذبية في مجال الاستثمارات، ففي حزيران 2022 وقع العراق والصين اتفاقية (إعفاء من تأشيرة الدخول) لفئات محددة من مواطني الدولتين، وفي مقدمتهم المستثمرون، سعيا لتسهيل عمليات التعاون الاقتصادي بين البلدين.

إن الصين لا تقوم بكل ذلك فقط من أجل تنمية اقتصادها بالمنطقة، وإنما تسعى أيضا لفرض وجودها من خلال دفع دول الشرق الأوسط في كتل سياسية واقتصادية يمكن أن يكون له آثار استراتيجية بعيدة المدى والاعتماد على الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية بدلا من التعاون الأمني.

ان لاستمرار الحرب الروسية الأوكرانية آثار اقتصادية وجيوسياسية عميقة لم تقتصر على أوروبا التي تغيرت خريطة الطاقة فيها، وازداد شراءها للغاز الطبيعي المسال من النرويج وقطر والولايات المتحدة، وكذلك من منتجي شمال إفريقيا وآسيا الوسطى، ولم تعد روسيا المورد الرئيسي، كذلك واردات النفط الأوروبية بعد أن فرض الاتحاد الأوروبي حظرا على النفط الخام والمنتجات البترولية الروسية، مستهدفا حوالي 2.5 مليون برميل يوميا. ومن المرجح أن يستفيد الشرق الأوسط أكثر من هذه التعديلات، مما يسمح له باستعادة الموقع البارز في السوق الذي فقده جزئيا مع ثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة والتحول العالمي إلى مصادر طاقة أنظف، فمن الناحية النظرية إعادة رسم خريطة النفط أسهل من إعادة رسم خريطة الغاز، وسوق النفط متكامل عالميا وخال من العوائق الرئيسية أمام التدفق الدولي لشحنات النفط الخام على النقيض من سوق الغاز الطبيعي الذي ينقل عبر خطوط الأنابيب ويحتاج لمنشآت التسييل وإعادة التحويل إلى غاز لجعل سوق الغاز فعال مثل سوق النفط.

من غير المرجح أن تتمكن الصين من تقليص دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في أي وقت قريب، لأسباب ليس أقلها أن أمريكا تظل الشريك الأمني ​​الرئيسي لمعظم دول الخليج وبعض دول الشرق الاوسط، وتواجد القواعد العسكرية الأمريكية، ففي العام الحالي أكمل أول تدريب مشترك لمكافحة الطائرات بدون طيار في مركز اختبار عسكري جديد في الرياض، وأعلنت شركتا طيران سعوديتان عن خطط لطلب 78 طائرة من شركة بوينج الأمريكية المصنعة واتخاذ خيارات لشراء 43 طائرة أخرى.