عصر الفضاء السيبراني والسيادة الوطنية

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2023-04-18 18:34:45

الباحث: احمد طارق خالد

المقدمة

لم يعد مفهوم السيادة الوطنية المطلقة دقيقاً مع ظهور الفضاء السيبراني في أواخر تسعينيات القرن الماضي وسيطرة الشركات متعددة الجنسيات على قطاع الانترنيت والاتصالات وتحول الدول نحو العولمة والحكومات الالكترونية حيث دخل الفضاء السيبراني كبعد جديد يضاف الى ابعاد السيادة الوطنية البر والبحر والجو ويعتبر ذو طابع استراتيجي لما له من تأثير اجتماعي واقتصادي وسياسي لامركزي يعيد مفهوم السيادة الوطنية وسيطرة الدولة على حدودها بشكل كامل.

ان العولمة، الحوكمة الالكترونية، الاتمتة، الذكاء الصناعي، انترنيت الأشياء، شبكات الجيل الخامس، تطبيقات التواصل الاجتماعي ... الخ جميعها مصطلحات جديدة غزت العالم الواقعي خلال فترة قصيرة وأصبحت اللاعب الأساسي في إدارة مرافق الدول ومؤسساتها إضافة الى نقطة تواصل المجتمع مع الدولة والمجتمع مع العالم الخارجي حتى أصبح العالم متقاربا بشكل يصعب الفصل بينه في العديد من الأمور ذابت خلاله فوارق الوقت والمسافات وتأثرت به المجتمعات فيما بينها بشكل فاق تصور الدول باعتباره مظهرا من مظاهر التطور التكنولوجي والأساليب الحديثة للحياة ليتحول الى سلاح ذو حدين يستخدم كسلاح يضاف الى أسلحة الدول وبعد جديد من ابعاد الحروب الحديثة ومقياس الى قوة الدولة بغض النظر عن حجم وعدد سكان تلك الدولة.

الفضاء السيبراني

اختلفت التعاريف للفضاء السيبراني من وجهة نظر المنظمات والدول لتتقاطع بمفهوم واحد على ان الفضاء السيبراني هو مجال عالمي يتكون من شبكات مترابطة فيما بينها من خلال البنى التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتشمل شبكات الانترنيت والاتصالات وأنظمة الحاسوب والأنظمة الخاصة بوحدات التحكم للمنظومات والمعدات والمحطات ويتكون من ثلاث عناصر العنصر المادي ويشمل أجهزة الحاسوب والخوادم والشبكات بأنواعها والاقمار الصناعية والعنصر التقني من أنظمة وبرمجيات وخوارزميات والعنصر الأخير البشري العامل عليها ويدار هذا الفضاء من قبل الدول المالكة للتكنولوجيا إضافة الى الشركات العابرة للحدود التي أصبحت كيان ينافس الدول من حيث الاقتصاديات والإدارة وعدد المواطنين ( المستخدمين).

إيجابيات الفضاء السيبراني

  • التواصل والتقارب الاجتماعي بين العالم الخارجي داخل نطاق واحد عبر منصات مواقع التواصل وفتح افاق المعرفة وحرية التعبير 
  • تنشيط الاقتصاد العالمي والتجارة الالكترونية التي دخلت بشكل كبير في الآونة الأخيرة وظهور العملات الرقمية.
  • الخدمات المصرفية (البطاقات الالكترونية) والسياحية (حجز الطيران والفنادق) التي تسهل الحياة على الانسان
  • التعليم الالكتروني والجامعات الرقمية لما لها من دور كبير في نشر العلم والتعليم إضافة الى كونها طريقة فاعلة في استمرار الحياة في الظروف الحرجة مثل الكوارث والحروب والجائحات

 

 

سلبيات الفضاء السيبراني

  • يحتوي على كم هائل من البيانات مما يجعلها سلاح خطير بيد الدول والشركات والمنظمات والجماعات الإرهابية
  • الجرائم الالكترونية والابتزاز الالكتروني والاحتيال التي تزداد مع انتشار الفضاء السيبراني وزيادة عدد المشتركين  
  • دول الظلام استخلاص من مسمى الانترنت المظلم الذي ينشط فيه الإرهاب السيبراني واستخدام العملات الرقمية المشفرة لغسل الأموال والدفع للمجرمين لتأمين ما يحتاجه المشتري من ممنوعات، او لتأدية خدمات اجرامية
  • الحروب السيبرانية والإرهاب الالكتروني
  • تجارة المخدرات والسلاح والاتجار بالبشر إضافة الى سرقة الملكية الفكرية
  • تحكم الشركات متعددة الجنسيات بملايين البشر من خلال مواقعها وفرض القيود التي قد تخالف وسياسة بعض الدول.

الفضاء السيبراني والسيادة الوطنية  

دخل الفضاء السيبراني كبعد من ابعاد هيمنة الدولة وركن من اركان قوتها العسكرية إضافة الى البر والبحر والجو والفضاء لما له من تأثير كبير وفعال في إدارة المعركة والتأثير في العدو إضافة الى قوة اقتصادية ودبلوماسية واجتماعية تقوي من مكانة الدولة بين دول العالم وتجعلها لاعبا مؤثرا على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، إذ لم تعد تقاس على حجم المساحة وتعداد السكان وحجم الترسانة العسكرية وتكنولوجيا الأسلحة التقليدية، بل على مدى تطورها في المجال السيبراني وسيطرتها على فضائها السيبراني.

ان تعدد الفاعلين في الفضاء السيبراني من دول وشركات متعددة الجنسيات ومنظمات وحتى افراد جعل من هذا الفضاء يختلف عن العوالم الأخرى التي تمارس فيه الدول سلطة سيادتها بطريقة مختلفة حيث ان الفضاء السيبراني مستمر في التوسع والانتشار مما يصعب تحديد ما يمكن تضمينه تحت السيادة الوطنية او حوكمة الفضاء السيبراني للدولة إذ اقتصر مفهوم السيادة الوطنية على الحدود المادية للدولة وحسب ما اتفق عليه في صلح وستفاليا والذي قضى بحقوق الدول السيادية على أراضيها الجغرافية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية ،ومع انتشار الانترنيت وازدياد الهجمات السيبرانية وتنظيم الاحتجاجات المناهضة للحكومات عبر مواقع التواصل الاجتماعي مما هدد السلم المجتمعي واستدعى النظر إلى هذا الفضاء كجزء من مفهوم السيادة الوطنية ويجب العمل على حمايته او السيطرة لو الجزئية منه .

ان الإجراءات التي اتخذتها بعض الدول في حماية امن فضائها السيبراني من خلال بناء فضاء سيبراني خاص بها كما في أمريكا والصين وروسيا وإيران ودول أخرى او بمعنى اخر ان ما ينتج عن قيام كل دولة بتبني نظام أو إنشاء فضاء إلكتروني خاص بها، إلى تفكك الإنترنت العالمي أو ما يُعرف بـ"تجزئة الإنترنت" والذي بدوره، يؤدي إلى تعرض الاتصال العالمي بالإنترنت للخطر من خلال الحد من التدفق الحر للمعلومات والذي يعتبر من اساسيات الانترنيت.

كما ان ظهور الشركات متعددة الجنسيات ومنصات التواصل الاجتماعي مثل كوكل و فيس بوك وتويتر ويوتيوب اضافة الى منصات مواقع التواصل الاجتماعي مثل واتساب وتلغرام وانستغرام وغيرها من الشركات التي فاق تعداد سكانها ( المستخدمين لتطبيقاتها ) اكثر من سكان اكبر الدول في العالم، إذا علمنا ان تعداد سكان الصين (1.45) مليار شخص فأن محرك البحث كوكل ( 4.3) مليار مستخدم و 70 الف عملية بحث في كل ثانية و شركة فيس بوك ( 2.85) مليار مستخدم نشط ويوتيوب ( 2.29) مليار مستخدم نشط وواتساب ( 2.0) مليار مستخدم نشط وتويتر ( 1.3) مليار مستخدم نشط . ان هذه الشركات العابرة للحدود قد اثرت بشكل مباشر او غير مباشر في سكان الارض من خلال منصاتها واصبحت جزء من حياتهم اليومية لا يمكن الاستغناء عنه واعطت مساحة للتعبير عن الراي والتواصل فيما بينهم وطرح الافكار والمفاهيم كما استعملت في قلب وتحريض الجماهير على الحكومات كما حصل في الربيع العربي حيث كانت المحرك الرئيسي ومركز العمليات والتواصل بين الجماهير.

كما فرضت هذه الشركات سياساتها وانظمتها على الحكومات والتي قد تتعارض مع سياسات الدول الداخلية واصبحت تجبر الدول على الرضوخ لمعاييرها وسياساتها مستبيحة بذلك السيادة الوطنية السيبرانية للدول ومحمية بقوانين ومعاهدات دولية تعزز من قوتها والية عملها في تلك الدول اضافة الى امتلاكها لقواعد بيانات ضخمة مهمة وحساسة عن مستخدميها ما لا تملكه دول عظمى عن مواطنيها، كل هذا جعل من هذه الشركات مصدر قلق وتخوف من قبل الدول على امنها وسيادتها الوطنية 

ان مفهوم السيادة السيبرانية للدولة يعتمد على محورين أساسيين

  1. مسؤولية الحكومات عن الهجمات الإلكترونية التي تنطلق من أراضيها، كونها تقع تحت سيادة الدولة. فالسيادة "تمنح حقوقاً للدول وتفرض عليها التزامات"، وفقاً إلى محكمة العدل الدولية. بالتالي، يُفترض أن تتحكم الدول في بنيتها التحتية الإلكترونية ومنع استخدامها عن قصد أو عن غير قصد لإلحاق الضرر بالجهات الحكومية وغير الحكومية خارج حدود الدولة. وبناءً عليه، تخضع الدولة ومواطنيها ممن شاركوا في الهجمات الإلكترونية لنطاق السيادة السيبرانية.
  2. مسؤولية الحكومات عن فضائها السيبراني وامن بنيتها التحتية وامن مواطنيها من الهجمات الداخلية والخارجية ومقدرتها على صد الهجمات والاستجابة للأحداث السيبرانية والاجراء الاستباقي في الحروب السيبرانية اضافة الى التعافي بعد الهجمات والعودة للعمل بأقل الخسائر وأسرع وقت.

اعتمدت بعض الدول مثل الصين على قوانين خاصة بالتعامل مع الانترنيت لحماية سيادتها من التدخل الخارجي من خلال بناء شبكاتها المحلية والسيطرة على بنيتها التحتية والبرمجيات والتطبيقات الخاصة بها إضافة الى جدار الحماية العظيم للصين الذي يراقب نشاط مواطنيها في الفضاء السيبراني من خلال تطبيقات الذكاء الصناعي وخوارزمياته المعقدة في مراقبة المحتوى وحظر المواضيع المناهضة للحكومة إضافة الى استخدام محركات بحث خاصة بها مثل Baidu  وبرنامج التواصل WeChat   مع سيطرتها الشبه كاملة على شركات صينية دولية مثل علي بابا للتجزئة  و تيك توك للمحتوى الرقمي وغيرها من شركات التواصل الاجتماعي .

كما اعتمدت بعض الدول مثل الاتحاد الأوربي بقوانين ومعاهدات تحمي بيانات مواطنيها وخصوصيتهم وتوسعت هذه الاتفاقيات لتشمل دول خارج الاتحاد وانطلاقة لدول أخرى لسن القوانين الخاصة بخصوصية بيانات مواطنيها على الفضاء السيبراني العالمي وتنظيم فضائها السيبراني بشكل لا يتعارض مع المبدأ العام للأنترنيت وحرية التدفق الحر للمعلومات وحرية التعبير. ويحتدم الجدل في المنتديات الدولية بشأن وضع قواعد الفضاء السيبراني، والتحديات النظامية التي تواجه الحوكمة العالمية للفضاء السيبراني. لذلك أصبحت السيادة السيبرانية محور جدل كبير خصوصا مع التقدم السريع في مجال الاتصالات والانترنيت وظهور الأجيال الجديدة لهذه التكنولوجيا.

 

 

على الرغم من أن فريق خبراء أمن المعلومات التابع للأمم المتحدة (GGE) قد توصل إلى درجة معينة من التوافق في الآراء، إلا أن الخلافات والشكوك العميقة لا تزال تقسم المجتمع الدولي، لا سيما فيما يتعلق بثلاث قضايا مهمة

  • التناقض بين السيادة الإلكترونية وروح الإنترنت؛ إن حصرية سيادة الدولة الكلاسيكية تتعارض مع روح الإنترنت، التي تقوم على مفهوم الاتصال البيني غير المقيد
  • التناقض بين السيادة الإلكترونية وحقوق الإنسان وحرية التعبير
  • التناقض بين الحوكمة السيبرانية وعدد أصحاب المصلحة الذين سيدخلون في عملية حوكمة هذا العالم

الاستنتاج

جغرافياً هناك حدود معروفة لكل دولة، ولكن في عصر الثورة التقنية والمعلوماتية الحديثة لا يوجد حدود رقمية دولية، مما جعل الأمن السيبراني أحد أهم ركائز منظومة الأمن القومي لأغلب دول العالم. وذلك بسبب أن معظم الدول باتت تخشى على سيادتها من التهديدات الجديدة ذات الطبيعة السيبرانية.

 لذلك لزم الأمر بتعديل استراتيجيات وسياسات وتشريعات التحول الرقمي والخصوصية بما يتناسب ويتوافق مع مصلحة الدول الوطنية والإقليمية والدولية إضافة الى بناء مراكز وطنية للأمن السيبراني مسؤولة عن إدارة الفضاء السيبراني وتنظيمه وحماية الدولة من الهجمات الداخلية والخارجية ووضع الخطط والتنبؤ والاستعداد لهذه الهجمات والية التعافي منها، وتوظيف هذا الفضاء لتعزيز المكانة الدولية في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي وبناء القدرات الوطنية العاملة في هذا المجال والتثقيف ونشر الوعي والمواطنة الرقمية من اجل بناء مجتمع واعي وامن ومحصن رقميا .