النظام العالمي وحتمية التغيير

التصنيف: دراسات

تاريخ النشر: 2022-11-07 17:30:51

زهير حمودي الجبوري

توطئة:

هذه الدراسة محاولة  أستشرافية وقراءة مستقبلية مستندة على الاحداث التاريخية وتحليل للاحداث المعاصرة للتنبؤ بمستقبل النظام العالمي ،قد تصح توقعاتها بنسبة ما أو  لا تصح  فهي محاولة جادة لفهم اسباب ودوافع التغيير في النظام العالمي وتداعياته  على الامن والسلام العالمي.

المقدمة:

النظام بالمفهوم العام  يعبر عن مجموعة من العناصر المترابطة والمتكاملة والمتفاعلة التي تسعى لتحقيق اهداف مشتركة لهذه الاجزاء المتفاعلة ، بأعتبار ان  هذه الاهداف تشكل ضرورة لادامة هذا النظام  كما انها تحقق رغبة العناصر المكونة له، بالوقت نفسه تضع أطار لسلوك العناصر الداخلة لهذا النظام.

وعند الولوج لمفهوم النظام العالمي  نجد له عدة تعريفات في قواميس المفاهيم السياسية منها تعريف - أيكنبيري-(مجموعة من الترتيبات الحاكمة بين الدول وتشمل قواعدها ومبادئها واعرافها الاساسية ويمكن ان تمثل المفاهيم النظرية الراسخة للمؤسسات والانظمة  كمقوم أساسي للنظام)1.

او يعبر عن النظام العالمي بأنه (أنماط من العلاقات تشكلت عبر الزمن بآليات ولاعبين كان هدفهم جعل التفاعلات الاجتماعية والسياسية عبر حدود الدول قابلة التوقع والادارة بما يشمل توزيع ورقابة على القدرات العسكرية والاقتصادية العالمية)2.

أما هيدلي بال-Hedly Bull- فقد وصف النظام العالمي بانه مجتمع الفوضى السياسية حيث خلافا للوضع داخل الدولة - الامة-لاتوجد سلطة شرعية في قمة الهرم تمسك بزمام احتكار  القوة مما يدفع الدول على تكديس القوة للدفاع عن .

وقد طرح مفهوم النظام الدولي عندما كانت الدول وحدها هي الفواعل في النظام وعندما توسعت البيئة الدولية لتضم  فاعلين من غير الدول تحولت التسمية الى النظام العالمي .

مما سبق يتضح ان للنظام العالمي مدخلات تتمثل في التحالفات والمعاهدات الدولية والقواعد غير الرسمية للوصول الى مخرجات تتمظهر بسلوك مقنن والتزام بالقواعد  عبر معايير مشتركة تحدد الاطار العام لسلوك الفواعل الذي يفرض ضبط النفس وعدم انهيار قواعد النظام الذي يعيدنا الى عالم الفوضى الذي سبق ظهور النظام العالمي(لانجاز اي نظام عالمي لابد لعناصره المكونة- مع احتفاظها  بقيمها الخاصة- من حيازة ثقافة ثابتة تكون عالمية وحيازة نظام يتعالى على منظور ومثل اي منطقةأو دولة أو أمة )3.

 

 

 

 

 

 

المبحث الاول

نشوء النظام العالمي وأنواعه

 

  1. نشوء النظام العالمي:

لم تكن فكرة النظام العالمي  حديثة الوجود بل  لها جذور تاريخية  ومحاولات تنظيرية مهدت لقيام النظام.

ففي عام 1315م  دعى -دانتي الليجيري Dante Alighieri- الى ضرورة توحيد السلطة والقضاء على الفوضى عن طريق قيام حكومة عالمية،بينما اقترح المفكر -أمريك كروشيه- التخلص من مبدأ السيادة لانه يسبب بتشقق المجتمع الدولي ، وذهب المفكر الالماني -فيلهلم ليبتز Wilhelm Leibniz-بعيدا حيث اعتبر ان السلم الدولي لا يتحقق بمنع قيام النزاعات بل يجب ان يستند الى تنظيم دولي يضم جميع الدول وينظم حل النزاعات وذلك في عام 1670.(4)

ولكن المحاولة الاولى لبلورة النظام العالمي ظهرت في اوربا بعد معاهدة - ويستفاليا- التي عقدت في اوربا عام 1648م لتنهي مئة عام من الفوضى السياسية والصراعات الطائفية وايذانا ببدء نظام عالمي قائم على الاعتراف بالدولة القومية  وسيادتها على أقليمها الجغرافي  وعدم التدخل بالشؤون الداخليةوالاعتراف بالبنى الداخلية والرسالة الدينية للدول مع ضمان تواجد توازن عام للقوة للوصول الى حالة السلام الدولي ( ما من نظام عالمي سبق له ان كان موجودا بالمطلق  وما يعد نظاما في زماننا تم اجتراحه في اوربا قبل نحو أربعة قرون في مؤتمر السلام بمنطقة ويستفاليا الالمانية وعقد دون انخراط بل وحتى علم اكثرية القارات او الحضارات الاخرى)5

وان كان هذا النظام ولد في اوربا ليرتب اوضاعها السياسية الا انه شكل نواة لنظام عالمي أتسع ليشمل العالم كله فيما بعد.

واستطاع نظام توازن القوى ان يحقق درجة من الاستقرار في اوربا  لكنه أتسم بالقلق وعدم الاستقرار مما تسبب في انهياره  والدخول في حربين عالميتين ساهمت تداعياتها الى محاولات جادة لانتاج نظام عالمي جديد يضع حدا للحروب الكونية ، باعتبار أن   تجربة امتلاك القوة المتوازنة لفواعل متعددة ترى كل منها انها قادرة على دحر الاخر يؤسس لظهور صراعات قادمة جديدة وهذا ماحصل فعلا (أن تاريخ العالم  هو تاريخ الصراع بين الكيانات السياسية المتنازعة مع بعضها للسيطرة على الموارد المحدودة ولابد  للكيانات المتنازعة في في صراعاتها التي لا تنتهي من أقامة توازن الحاجة للتطور الاقتصادي وضرورات الحرب)6

وهكذا ولد نظاما عالميا جديدا أتسم بالثنائية القطبية من قطبين عالميين اثنين فقط احدهما الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتي السابق  لينقسم العالم الى معسكرين شرقي يمثله الاتحاد السوفيتي بالعقيدة الاشتراكية وحلف وارشو العسكري ومعسكر غربي تقوده الولايات المتحدة بعقيدتها الرأسمالية وحلف الناتو لتعلن بداية الحرب الباردة (فبدون لحمة التهديد السوفيتي المشترك سيتزايد الضرر المحتمل لعمق الصدع بين الولايات المتحدة وأصدقائنا وحلفائنا  الطبيعيين وهذه الاجندة تحتاج الى أوثق تعاون دولي)7

 واستطاع هذا التوازن  الثنائي وبما يملكه القطبين من اسلحة نووية ذات قوة تدميرية عالية تجعل من الحروب ذات نتيجة صفرية  ان يمنع من  حدوث الصراعات الكبري بين القطبين مع بروز صراعات  ثانوية بديلة لفرض الارادات وتحت سيطرة وتحكم القوى العظمى.

ولكن انهيار احد القطبين ( الاتحاد السوفيتي) سياسيا واقتصاديا منح الفرصة للقطب الاخر ( الولايات المتحدة الامريكية ) ان يكون القطب الاوحد في العالم لما يملكه من قدرات عسكرية واقتصادية وصناعية ليسخر النظام العالمي ومؤسساته الدولية ويفرض  هيمنته العالمية باستخدام القوة الصلبة والقوة الناعمة كوسيلتين لتحقيق اهدافه العالمية ، ولكن هذا الانفراد اعطى للقطب الاوحد جرعة من الطغيان والجبروت  والتحكم في كافة المسارات العالمية العسكرية والاقتصادية والسياسية وتطبيق معتقداته عالميا مستغلا غياب التوازن .وترجمت الولايات المتحدة انفرادها كقوة عظمى باستخدام القوة في حروب مع خصوم ضعاف لتتباهى باستعراض قوتها وغياب المنافس الذي يستطيع ان يقف بوجه هذه القوة المنفردة بالنظام العالمي.

واليوم العالم يقف على بوادر وملامح تغيير في النظام العالمي نابعة من تراجع تدريجي للقطب الاوحد في مفاصل القوة الثلاث يقابله عودة الروح( روسيا) وظهور قوى دولية قادرة على منافسة ومزاحمة القطب الاوحد مثل( الصين والهند)مع قوى اقليمية تستطيع في اصطفافاتها  ان تخلق توازنات دولية جديدة تساهم في رسم ملامح النظام العالمي الجديد وصياغته( يعتقد بعض المحللين اقتراب العودة الى الثنائية القطبية حيث تكون الولايات المتحدة في مواجهة روسيا بعد عودة انتعاشها أو في اقوى الاحتمالات في مواجهة الصين الناشئة)8

 

  1. أشكال النظام العالمي:

من خلال القراءة التاريخية للنظام العالمي منذ نشوئه الواقعي الى اليوم نلاحظ انه  لم يستقر على حال واحد بل انه نظام متغير مع تغير الضروف والاوضاع العالمية وكانما التغيير يمثل استجابة لواقع عالمي ودولي متغير  لذلك  أتسم النظام العالمي وبحسب توزيع القوة بين الدول لحد الان بثلاث أصناف هي:

آ- نظام متعدد الاقطاب:

أو يسمى بتوازن القوى(وحدات سياسية متعددة ليس فيها واحدة ذات قوة كافية لدحر أخرى ، ومثبتة لفلسفات وممارسات داخلية متناقضة بحثا عن قواعد محايدة لضبط سلوكها والتخفيف من الصراع)9  بحيث يفتقد النظام العالمي وجودة قوة او قوتين يمتلكان بشكل منفرد مقومات القوة ومن ثم قيادة العالم بل  أتسم نظام توازن القوى  تعدد مراكز القوة على عدد من الوحدات الدولية وبصورة متكافئة مما يساعد على منع نشوب نزاع مسلح   وبنفس الوقت يعمل هذا النظام على  ايقاف محاولة اي دولة لزيادة قدراتها العسكرية والتسليحية بما يخل بهذا التوازن ويهدد أستقراره  من خلال اقامة التحالفات مع الدول الاضعف بوجه الدول المهددة للتوازن أو عن طريق توقيع المعاهدات الدولية الملزمة لجميع الاطراف بعدم تهديد التوازن الدولي والاخلال بنظامه .

ونالت أوربا استقرارها بفظل نظام توازن القوى منذ نشأته بعد معاهدة ويستفاليا  الى عام  1889( المرة الوحيدة في تاريخ العالم نعمنا فيها بفترة من السلام هي عندما كانت ثمة توازن في القوى ، فعندما تصبح دولة واحدة او اكثر قوة بصورة غير محدودة يبرز خطر الحرب)10 ولكن بدأ عدم الاستقرار يتسرب الى هذا النظام ومهد صراع المصالح والنفوذ بين هذه القوى  خارج الساحة الاوربية  وبشكل متسارع الى الذهاب الى الحربين العالمية الاولى والثانية التي أنهت نظام توازن القوى وتعدد القطبية وبروز نظام عالمي جديد بعد الحرب العالمية الثانية وسمي نظام القطبية الثنائية.

 

ب- نظام ثنائي القطبية:

ساد نظام القطبية الثنائية العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام1945م  و لغاية عام 1989 حيث انهيار الاتحاد السوفيتي وزوال القطبية بزوال الكتلة الشرقية وتفكيك حلف وارشو .

وفعلا استطاع التوازن العسكري المستند على الايديولوجيات المتنازعة ان يحفظ العالم من حدوث حروب كونية بين القوى الكبرى واستعيض عنها ببعض الصراعات والحروب البديلة في مناطق متفرقة توظفها الاقطاب لخدمة مصالحها  ( بدون لحمة التهديد السوفيتي المشترك سيتزايد الضرر المحتمل لعمق الصدع بين الولايات المتحدة واصدقائنا وحلفائنا وللتعامل مع هذه الاجندة نحتاج الى اوثق تعاون دولي ليس مع الدول الصغيرة التي تستطيع امريكا تخويفها أو رشوتها)11.

وتميز هذا النظام بما يلي:

- وجود صراع ايديولوجي بين القطبين تمثل الفكر الرأسمالي الغربي الذي تبشر به الولايات المتحدة الامريكية قبالة الفكر الشيوعي والاشتراكي الذي تروج له الاتحاد السوفيتي والذي انقسم العالم حول هذين الفكرتين

- اوجد النظام الثنائي حلفين عسكريين الاول للمعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة واوربا الغربية وسمي حلف الناتو ومعسكر شرقي يقوده الاتحاد السوفيتي واوربا الشرقية وسمي بحلف وارشو وكان سباق التسلح بين القطبين سمة بارزة وامتلاك  القطبين القوة النووية التدميرية ساهم بعدم نشوب حرب مباشرة بينهما( دخلت الولايات المتحدة في حروب عدة ساهمت بأثارتها كي تستفيد من تنشيط قطاع الانتاج العسكري، فيما ظلت الحرب الباردة معينا لا ينضب للانفاق العسكري في مجال التوسع والتجديد والابتكار)12

- المسافات الجغرافية المتباعدة وعدم الجوار المباشر بين القطبين ساعد على حصول حرب مباشرة بينهما ولكن ظهرت حروب بالوكالة في مناطق اخرى تعمل عليها الاقطاب بشكل غير مباشر

ج- نظام أحادي القطبية:

هي الوضعية التي يكون فيها النظام العالمي  تحت قيادة دولة واحدة مهيمنة بدون منافس وتملك قدرات مفرطة وتحوز على حصة كبيرة من الموارد والقدرات التي تمكنها من تحقيق اهدافها

وهذا ماشهده العالم منذ سقوط جدار برلين عام 1989 وما تبعه من توحيد المانيا وانهيار القطب الثاني الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991م، ولقد وصف مستشار الأمن القومي الاميركي السابق-برنت سكوكروفت-هذا المشهد بالقول( وجدت الولايات المتحدة نفسها تقف وحيدة على قمةالقوة العالمية، وقد كان هذا بالفعل موقفا غير مسبوق في التاريخ ، وهو قدم لنا فرصة نادرة لتشكيل العالم)13

ومن اهم مقومات القوة التي يجب ان تتوافر في الدولة المهيمنة اولها القدرات العسكرية الاقوى مع امكانيات اقتصادية متنوعة مع كفاءة في المؤسسات والتنظيم اضافة الى حجم السكان والارض والموارد الطبيعية( ان ارتباط النظام الدولي بالصيغة الاحادية نتيجة حتمية لانعدام أو تأخر ظهور القوة أو القوى الدولية القادرة على أن تؤدي الدور الموازن في معادلة القوة)14.

وامتاز نظام القطبية الاحادية بغياب الحروب مع الدول الكبرى لكن القطب الاوحد  شن حروب مع دول ضعيفة لاتزال هزيمة ساحقة لها مع ابراز قوة القطب وهيمنته عالميا حيث قامت الولايات المتحدة باستهلال النظام الاحادي بحرب تحرير الكويت وهزيمة الجيش العراقي تلتها حربي افغانستان والعراق  .

ومن سمات هذا النظام غلبة المصلحة على الاخلاقيات حيث استطاع القطب الاوحد ان يفرض هيمنته على المنظمات الدولية السياسية والاقتصادية وسخر قراراتها لتحقيق مصالحه بعيدا عن القيم الانسانية والاخلاقية وحتى بعيدا عن العدالة لعدم وجود قوى قادرة على الاعتراض والرفض ، لذلك عد البعض من المحللين ان  نظام القطب الاوحد هو في غاية السوء  ليس للدول الاخرى بل حتى الدولة ذات القوة العظمى  لان الطغيان واكراه المجتمع الدولي على الرضوخ بفعل القوة الخارقة بمرور الزمن يكون سبب للضعف من داخل الدولة نفسها وهذا ما يمهد لنهاية نظام القطب الاوحد في قادم الايام .وقد عبر عن ذلك الكاتب الامريكي -بول كيندي-في  كتابه- صعود وسقوط القوى العظمى-(أن التمدد المفرط كان نقطة البداية لزوال امبراطوريات عظمى  لانها عند نقطة معينة من التمدد تكون التكلفة باهضة وتتجاوز المكاسب وحتى القدرات الاقتصادية وهي الاهم بالتآكل حتى تتقلص وتنهار قوة الامبراطورية)15

 

المبحث  الثاني

دوافع تغيير النظام العالمي

مقدمة:

من المتعارف عليه أن التغيير هو الثابت الوحيد في عالم السياسة، وبما أن النظام العالمي  له الموقع المتميز في عالم السياسة فمن المؤكد أنه سيحمل صفة التغيير المستمر وأن اتسمت عملية التغيير بنوع من البطء  استجابة لحتمية التغيير وقانون التطور أو رضوخ لضروف دولية جديدة تفرض معطياتها على الواقع الدولي.

وبما أن نشوء النظام العالمي من صنيعة وانتاج القوى الكبرى فأن من المؤكد ان التغيير في شكله أو ملامحه تتحكم فيه نفس هذه القوى او من يمتلك مقومات القوة والمنافسة  من الوحدات الدولية لتسخير النظام ومؤسساته لديمومة تفوقها وهيمنتها( يتطلب السعي المعاصر لأجتراح نظام عالمي أستراتيجية متماسكة لترسيخ مفهوم للنظام داخل المناطق أو الاقاليم المختلفة مع العمل على ربط هذه الانظمة فيما بينها، هذه الاهداف ليست متماهية أو ذاتية التصالح بالضرورة)16

كما أن مفهوم القوة واستخداماتها المتنوعةسواء الصلبة منها أو الناعمة أو الذكية  رافقت تشكيل النظام منذ البداية ولازمت كل تغيير في شكله ومعالمه وحتى تصنيفاته فأنها اعتمدت توزيع القوة وامتلاكها  كعلامة فارقة في تصنيف النظام وتسميته  كونها أداة التفوق والهيمنة في النظام

 

- عوامل التغيير في النظام العالمي:

قبل  الولوج الى العوامل التي ساهمت في أحداث التغيير في النظام العالمي  يفرق المختصون في وصف حالة التحول هذه  فالبعض يطلق عليها وصف -الانتقال Transition- والذي يعني تغيير شكل النظام مع بقاء القواعد الاساسية التي تحكمه ويقتصر التغيير على توسيع او تقليص القوى الكبرى،فيما يرى أخرون انه التحول يوصف- بالتغييرChange- بأعتبار أن التغيير يشمل الشكل والمضمون والمواثيق والمؤسسات.

ورغم الاختلاف في التوصيف الا  أن نفس العوامل تؤثر وتصنع تحول النظام  أن كان شكلا أو مضمونا،

ومن أهم العوامل  التي يمكن ان نتلمس حضورها المصاحب لعملية التغيير هي :

1-العامل العسكري والحربي:

   من ابرز سمات النظام الدولي هو التنافس والصراع بين الوحدات الدولية على النفوذ والمزيد من تأمين المصالح لهذه الوحدات،وأن كان بالامكان التحكم بعملية بدأ الحروب الا أن الجميع لا يتحكم بنهاياتها أو مساراتها

،  فالحروب التي شهدتها أوربا من الحروب النابليونية التي انتهت بعقد مؤتمر فيينا عام (1814-1815)والحروب الدينية التي دامت ثلاثون عاما وانتهت بعقد معاهدة -ويستفاليا  1846)أرست لنظام توازن القوى متعدد الاقطاب متفاوت القوة لكنه محكوم بمصفوفة مباديء منها احترام سيادة الدول وحرية الاديان وعدم التدخل بالشؤون الداخلية للحد من الفوضى والحروب والامراض  التي سببت الانهيار الاقتصادي للدول الاوربية (مالبثت المنافسة العابرة للمحيطات  العابرة للمحيطات على المستعمرات التي أمتدت خلال القرن التاسع عشر وتحولت الى صراع على سيادة اوربا بالذات ، قبل أن تنقلب في أوائل القرن العشرين الى تحالف مشترك ضد قوى أوربية صاعدة) 17،فبالرغم من قساوة الحروب و مأساتها الا انها ولدت ضغطا على الحكام للجلوس وانتاج نظام دولي اكثر استقرارا وأمنا كما اعتقد مؤسسيه، الا  أن هذا الاستقرار بدأ يدخل مرحلة القلق لعودة روح التنافس والصراع بين مكونات النظام ( توازن القوى) الذي تصدرته بريطانيا ولكن  بفارق بسيط عن فرنسا والنمسا وبروسيا( المانيا لاحقا) ولحقتهم ايطاليا بعد توحيدها عام 1870. لنصل الى انطلاق الحرب الكونية الاولى(1914-1919) بين الحلفاء ودول المحور لتعيد اصوات المدافع والطائرات حتى خارج أوربا  (أن تعدد الاقطاب في توازن القوى الاوربية في القرن التاسع عشر،حيث كانت ثمة أربع  أو خمس دول توازن بعضها قد يؤدي الى حروب للهيمنة مثل تلك التي حدثتني النصف الاول من القرن العشرين) 18،لتأتي معاهدة -فرساي- لتسكت اصوات المدافع وتعاقب الدول الخاسرة المتمثلة بالدولة العثمانية وألمانيا وتشكيل مؤسسة دولية ( عصبة الامم)ترعى حالة السلام العالمي وتمنع من قيام الحروب ، لكن قساوة العقوبات على المانيا حفزت -أدولف هتلر-الى اعلان الحرب الكونية الثانية(1939-1944) الاشد ضراوة واكثر فتكا مع تطور الخطط العسكرية والاسلحة التدميرية الجديدة( القنبلة النووية التي استخدمتها امريكا ضد اليابان) وراح ضحيتها الملايين من البشر اجبرت الدول على الجلوس مرة اخرى لطاولة التفاوض وانهاء الحرب وتحقيق السلام ومعاقبة الجهات المعتدية ومن ضمن ما تمخضت منه الحرب هو قيام مؤسسة دولية ( الامم المتحدة) لترعى السلام وتمنع اندلاع الحروب  ، ليبرز في العالم قطبان كبيران لقيادة النظام العالمي الجديد لما بعد الحربين هما الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتي السابق سمي بنظام ثنائي القطبية حيث أستند كل قطب على ايديولوجية  خاصة به ( ليبرالية غربية وشيوعية شرقية)مع حلف عسكري بسلاح نووي( حلف الناتو بقيادة امريكا وحلف وارشو بقيادة الاتحاد السوفيتي) ورؤية اقتصادية متباينة ( رأسمالية غربية وأشتراكية شرقية)وسعى كل قطب بقوة لأستقطاب المزيد من المتحالفين حتى انقسم العالم الى معسكرين شرقي وغربي(صارت أمريكا والاجزاء الغربية من اوربا  النواة الجيوسياسية للعالم  الاطلسي موحدة بالهدف المشترك باحتواء روسيا السوفيتية)19.

واستطاع نظام ثنائي القطبية بالفعل من منع حروب عالمية  طيلة سنواته الخمس والاربعون  بتأثير وجود السلاح النووي ذو التدميرية الهائلة الا انه شهد حروب اخرى سميت الحروب بالوكالة خارج اوربا وبين دول غير نووية (ادركت الولايات المتحدة أن الازمات والحروب التي أندلعت انذاك هي من صنعالسوفيت بقصد التمهيد للهيمنة على العالم ، ورأى السوفيت في ذات الحروب سبيلا لمحاصرتهم ومن ثم الانفراد بالعالم) 20،وبنفس الوقت نشب سباق تسلح رهيب بين القطبين  اطلق علية بالحرب الباردة انهكت بالتدريج أحد الاقطاب ( الاتحاد السوفيتي) ليصل الى مرحلة الضعف وانهيار المعسكر الشرقي وتفكك  تحالفه ومن ثم تفكك الاتحاد السوفيتي نفسه وانتهاء حلفه العسكري ليس بالحرب العسكرية المباشرة ولكن بالحرب الباردة التي مزجت بين القوة الصلبة والناعمة ليصحوا العالم بعد انهيار جدار برلين عام 1989 على نظام عالمي جديد سمي بنظام القطب الواحد الذي تزعمت فيه الولايات المتحدة منفردة بالزعامة العالمية  بأمتلاكها مصادر  القوة العسكرية والاقتصادية الاعظم مع قوة الجاذبية بنظامها الليبرالي القائم على الديمقراطية وحقوق الانسان واقتصاد السوق الحر الذي من خلاله فرضت  هيمنتها حتى على المؤسسات الدولية الكبيرة السياسية والاقتصادية والعسكرية ( لانجاز اي نظام عالمي حقيقي لابد لعناصره المكونة مع أحتفاضها بقيمها الخاصة  من حيازة ثقافة ثابتة تكون عالمية وحيازة مفهوم نظام يتعالى على منظور ومثل أي أمة أو دولة) 21.

ولم تغب الحروب عن النظام الدولي الجديد بل كانت بدايته واعلانه بحرب الولايات المتحدة على العراق وتحرير الكويت والحرب على الارهاب في أفغانستان والعراق ودول أخرى ، وأتاح غياب المنافس لامريكا ان تسير العالم وفق رؤيتها فارضة هيمنة لم يسبقها أحد فيها وقد لا تتكرر ايضا مستثمرة نفوذها لمنع ظهور أي منافس لها في كل الميادين .

واليوم يصرح قادة العالم ويتوقع المحللون السياسيون بالانتقال الى نظام عالمي جديد ينهي نظام القطب الاوحد وكما هي الانتقالات السابقة في شكل النظام رافقتها الحروب والصراعات العسكرية فان الحرب الروسية على اوكرانيا قد تكون  هي  أو تداعياتها بداية لنهاية النظام العالمي الحالي  وظهور نظام عالمي جديد  ، وان بدت  الحرب اليوم في الاراضي الاوكرانية فأن مساراتها ومدياتها لايمكن التحكم بها من قبل الاطراف المتنازعة  ، وأذا كانت المواجهة اليوم بين  الجيشين الروسي والاوكراني  فأن الباب مفتوح لدول اخرى الانخراط فيها لحساسية جيوبوليتيك المنطقة وطبيعة الاحلاف العسكرية  فأن  اي خطأ يصدر من طرفي النزاع قد يؤدي الى توسيع دائرة الصراع ليضم دولا اخرى كما كان حادث أغتيال ولي العهد النمساوي من قبل طالب صربي ذريعة لاندلاع الحرب العالمية الاولى

  ،اما دوافع الصراع فهي أكثر بعدا و اوسع افقا من صراع بين دولتين بل ان جوهر الصراع هو محاولة انضمام اوكرانيا الى حلف الناتو  مما  يعني تهديدا  وجوديا لروسيا وأمنها  وأن  تمدد حلف الناتو الى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق هو غير قابل للتطبيق كونه يضيق الخناق جغرافيا واقتصاديا وعسكريا عليها بمعنى اخر روسيا اليوم اصبحت مؤهلة لتكون قطبا عالميا جديدا منافسا للتفرد الامريكي يقابله شعور أمريكي بقدرة روسيا على ان تمثل هذا الدور في ظل تراجع للهيمنة الامريكية في مناطق الصراع الاخرى خارج اوربا،  وبهذا الصدد  يقول  -توماس فريدمان- في مقال لصحيفة -نيويورك تايمز-(أن المعركة التي أشعلت هذه الحرب العالمية وأن بدت على الارض تتعلق بمن يسيطر على أوكرانيا ،سرعان ما تحولت الى معركة كبيرة بين النظامين السياسيين الاكثر هيمنة في عالم اليوم)

فالجميع بان يعتقد اليوم أن الحرب الروسية وتداعياتها يمكن ان تهيء لحرب كونية ثالثة أو تكون منطلقا لتغيير النظام العالمي  ،فحينما سألت-فيونا هيل-كبيرة مديري الشؤون الاوربية والروسية في مجلس الامن القومي الامريكي عن أحتمالية وقوع حرب عالمية جديدة ثالثة قالت( نحن بالفعل في هذه الحرب ونحن فيها منذ بعض الوقت) 22،ويظهر ذلك جليا من خلال كمية الاسلحة الغربية المتدفقة الى أوكرانيا وأن كانت دفاعية فانها توحي للمتابع  أن اوكرانيا ليس وحدها في مجابهة روسيا بل أن الناتو مشترك فعلا  ولكن بالامكان توسيع دائرة المشاركة  ،فسعي امريكا لتوسيع حلف شمال الاطلسي نحو شرق اوربا يقابله رغبة روسية بتقليص الوجود الغربي في اوربا يعكس حالة الصراع العالمية للهيمنة والنفوذ  وهذا ما أشار اليه -سيرجي لافروف- وزير الخارجية الروسي عن خطر نشوب حرب عالمية ( أنه أمر حقيقي لا يمكنك التقليل من شأنه ،أن امدادات حلف الناتو لاوكرانيا بالاسلحة  يعني في جوهره أن التحالف الغربي في حرب بالوكالة مع روسيا)23،

كما لاننسى أن هناك بؤر صراع بدأت تظهر بقوة في مناطق أخرى في العالم لكنها تقع ضمن صراع النفوذ العالمي بين القطب الامريكي مع أقطاب جديدة منافسة حيث الصين ومطالبها بتايوان  علنا واستعدادها للدخول في صراع ضد من يحاول سلبها هذا الحق وتقصد بها أمريكا ، وهذا ما دفع بالزعيم الصيني- شي جين- نقلا عن أذاعة -أسيا الحرة-بالتوقيع على توجيه يسمح بالاستخدام (غير الحرب) للقوات المسلحة  كأنما يمهد لعملية خاصة ضد تايوان .

وليس بعيدا عن ذلك الرفض الامريكي لتجارب كوريا الشمالية في مجال الصواريخ العابرة للقارات ، وهناك حيث الشرق الاوسط برزت ايران كقوة أقليمية تحاول امتلاك السلاح النووي بوجه الكيان الصهيوني الابن المدلل للولايات المتحدة الامريكية .

أن تشكل بؤر الصراع هذه مع بعضها ممكن أن تظهر توازن قوى جديد في العالم قد يفقد امريكا هيمنتها ويرشح لظهور اقطاب عالمية جديدة مثل روسيا والصين عن طريق الحرب أو غيرها.

 

2- العامل الاقتصادي والتقني:

هناك ترابط وثيق بين الاقتصاد والسياسة  يبدأ من مستوى التخادم ويصل الى درجة التكامل فالاقتصاد يوظف لخدمة السياسة والسياسة تدعم الاقتصاد بأعتباره الذراع الثاني للقوة الصلبة مع القدرات العسكرية.

وقراءة في تاريخ النظام العالمي نجد ان  بروز القوى الدولية المهيمنة  أرتبط بالثورة الصناعية وامتلاك القدرات الانتاجية  و الاقتصاد الفاعل الذي دفعها للتحرك خارج حدودها مرة للحصول على المواد الاولية المطلوبة في التطوير الصناعي واخرى لتسويق منتجاتها الصناعية للاسواق العالمية فأصبح لكل نظام عالمي نظامه الاقتصادي الخاص من حيث مراكز القوى والمؤسسات الاقتصادية والرؤية الاقتصادية

ففي فترة نظام متعدد الاقطاب كان القوة الاقتصادية عاملا مهما في تحديد الاقطاب الدولية وكانت مركزها أوربا حيث برزت بريطانيا   وبعد الثورة الصناعية كورشة عمل تنتج ربع الانتاج العالمي من كافة السلع لتكون لندن عاصمة العالم المالية (كانت بريطانيا بالنسبة العالم الشرطي والمصرفي في آن واحد وكانت أول قوة عظمى حقيقية ،هكذا رأت بريطانيا نفسها وهكذا أرادت أن يراها العالم :الرقم واحد)24.

كما برزت ألمانيا  بقيادة- بسمارك-كقوة عظمى منافسة لبريطانيا وتحقق مبدأ توازن القوى مع وجود فرنسا (أصبحت المانيا اقوى قوة برية في اوربا  أضافة الى أمتلاكها  ديناميكية أقتصادية تتماشى مع تلك القوة  حيث دخلت المنتجات الالمانية في منافسة شرسة مع المنتجات البريطانية)25.

وكان التنافس الاقتصادي بين هذه الاقطاب سببا في اندلاع الحربين العالميتين  اللتان بدورهما انتجا نظاما عالميا جديدا عرف بالثنائية القطبية حيث وقف الاتحاد السوفيتي مع اوربا الشرقية ودول اخرى في المعسكر الشرقي القائم الاشتراكية الشيوعية والاقتصاد المركزي الذي تهيمن عليه وتقوده الدولة  بكل تفاصيله مقابل المعسكر الغربي الليبرالي والذي اعتمد نظام السوق الحر والملكية الفردية وحرية التجارة  وكل معسكر خلق مجموعة من المؤسسات الاقتصادية والتحالفات والاتفاقات الدولية لفرض رؤيته ومشروعه الاقتصادي الذي أنقسم ازاءه اغلب الحكومات في العالم.

وتميز النظام الاقتصادي العالمي في نظام ثنائي القطبية  بوجود  التكتلات الاقتصادية  والشركات المتعددة الجنسية  والمؤسسات الاقتصادية الدولية ومن أهمها صندوق النقد الدولي الذي يعني  بالنظام النقدي العالمي، والبنك الدولي الذي يدير النظام المالي الدولي،ومنظمة التجارة العالمية التي تشرف على التبادل التجاري الدولي(يعتمد هذا النظام بقوى دافعة جديدة حيث تسود شبكة كبيرة ومعقدة من التفاعلات بين مناطق العالم من خلال المؤسسات الدولية،هذه القوى جعلت محدد المكانة الدولية هو القدرات الاقتصادية وليس القدرات العسكرية وحدها)26

لكن ما شهده العالم مع دخول القرن العشرين من بروز قوى أقتصادية عالمية جديدة دخلت ميدان التنافس مثل الصين والهند والبرازيل وروسيا ما احدثته تداعيات جائحة كورونا من أزمة اقتصادية عالمية عززت ادوار القوى الصاعدة في الاقتصاد العالمي  ، حيث باتت الصين تمتلك مقومات القوة والقدرة على ادارتها لتلعب دورا فاعل في النظام الدولي بفظل أقتصاد متقدم ومستقر حقق نسبة النمو الاعلى عالميا تجاوزت ال7/.(أن صعود الصين أثار حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في النظام الدولي مشابهة لصعود ألمانيا واليابان والاتحاد السوفيتي في القرن العشرين كأمثلة تاريخية لرصد سلوك الصين وتأثيره على بنية النظام الدولي )27

كما ان الحرب الروسية على اوكرانيا والعقوبات التي فرضها حلف الناتو على روسيا  وما افرزته من ازمة  أزمة عالمية بسبب نقص تجهيزات الغاز والنفط والغذاء  تركت اثرا واضحا على الحياة في اوربا وامريكا تمظهر في ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع اسعار الوقود ونقص في امدادات الغاز (روسيا تتمتع بوضعية جيوبولتكية ممتازة  فمساحتها الهائلة  حولتها الى دولة مكتفية في مجالات الثروات والطاقة والمعادن ، كما تسيطر على طرق أمدادات الطاقة  الامر الذي يدعم مطالبها بمزيد من النفوذ والمشاركة في تشكيل السياسات العالمية)28

نستخلص من خلال تداعيات جائحة كورونا والحرب الاوكرانية أن امريكا فقدت موقع الصدارة العالمية في النظام الاقتصادي لصالح الصين التي تشكل اليوم 25/ من اجمالي الانتاج العالمي مع تحول روسيا من دور استخدام حق الفيتو في مجلس الامن  الى دور اللاعب الذي لايمكن تجاوزه في موازين القوى العالمي الجديد ( كشفت التطورات الاخيرة التي شهدها العالم في العقد الاخير أن النظام العالمي لم يعد ممهدا لتقبل قوة واحدة مهيمنة عليه وان النظام الدولي  يتجه في طريقه الى التعددية القطبية وصعود قوى جديدة)29

 

3- العامل الحضاري والثقافي:

واحدة من مقومات نشوء الامم والدول  هي الجوانب الحضارية والثقافية مثل الدين واللغة  والتاريخ  والمنتج الثقافي والادبي والفني  والتي يطلق عليها القوة الناعمة كونها تساهم في بناء قوة الدولة ومكانتها في العالم، والدول العظمى هي التي تستطيع أن توظف معالم قوتها الصلبة والناعمة  وتسويق نموذجها الاقتصادي والفكري بعوامل جذب تجعل منها دولة مهيمنة ومؤثرة في صياغة النظام العالمي.بل أن التحالفات الدولية وأن قامت على أسس المصالح السياسية الا أن التقارب الثقافي والحضاري والفكري موجود بشكل واضح في أغلب هذه التحالفات بأعتبار أن النظام العالمي لايمكن ثباته من قبل بلد واحد ويرى - هنري كيسنجر-(أن أي نظام عالمي حقيقي لابد لعناصره المكونة مع احتفاظها بقيمها الخاصة من حيازة ثقافة ثابتة تكون عالمية، وحيازة مفهوم يتعالى على منظور  ومثل أي منطقة أو دولة) 30.

وكل الدولة التي فرضت هيمنتها على النظام العالمي في الاوقات المتتالية أستحضرت مخزونها الحضاري  والفكري والايديولوجي كعامل قوة أضافي وعملت على التبشير به ومحاولة تعميمه على الدول التي تقع تحت هيمنتها خاصة اذا كانت بفعل الاحتلال المباشر  ومن ابرزها اللغة.

وبعد الحرب العالمية الثانية ظهرت فكرتين ايديولوجيتين الليبرالية الرأسمالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية والشيوعية الاشتراكية  بقيادة  الاتحاد السوفيتي السابق وأنقسم العالم الى معسكرين مختلفين ومتنافسين  سياسيا واقتصاديا وثقافيا  (هنا تراجع المفهوم التقليدي للقوة بفعل بروز نزاعات ذات أبعاد ثقافية ودينية وأجتماعية ، بما يؤشر صعود دور العوامل الثقافية في تشكيل التفاعلات الدولية بفعل بروز الهوية الثقافية)31.

وبالتدريج بدأت تنحسر الايديولوجية الشيوعية أثناء الحرب الباردة مع أنتشار واسع للديمقراطية الليبرالية لتفرض وجودها الايديولوجي كفكرة تقود العالم  وبدون منازع بشعارات الديمقراطية وحقوق الانسان والسوق الحر لتتسيد أمريكا العالم وتقمع اي صوت يعارض فكرتها وهيمنتها ولتبرير هذه الهيمنة طرحت أفكار كل من -فوكوياما-في نهاية التاريخ بوصول العالم الى مرحلة الليبرالية الغربية كأرقى ما وصله الفكر الانساني مع ضرورة الاستجابة له من كل العالم وأفكار -صموئيل هنتيغتون- في صراع الحضارات  حيث أضافة بعدا جديدا  في الصراع وهو البعد الحضاري كبديل للبعد الايديولوجي الذي أتسمت به فترة الحرب الباردة ( أن الانتماءات الايديولوجية يمكن التغلب عليها لكن الخصائص الثقافية للشعوب  لايمكن تغييرها  فيمكن للشيوعي ان يكون ليبراليا لكن لا يمكن للمسلم أن يعتنق البوذية)32

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي واختفاء نظام القطبية الثنائية  غاب  الصراع الايديولوجي عن الساحة العالمية وبدت بوادر الصراح الظاهري الذي بشر  له صمؤيل  هنتغتون في كتابه صراع الحضارات بقوله(أن ظاهرة التصادم بين الحضارات ستحل محل الحرب الباردة بأعتبارها الظاهرة المركزية للصراع الدولي ،وبالتالي فالانقسامات الكبرى في العالم ستكون انقسامات ثقافية تتصادم في أطارها  مجموعة من الكتل الحضارية)33.

ويرى الفيلسوف الالماني -أوزوالد  شبنغلر- في كتابه -أنحلال الغرب-( أن الحضارات مثل الكائنات الحية تولد وتنضج وتزدهر  ثم تموت، وأن الحضارة الغربية  تموت وسوف تحل محلها حضارة أسيوية جديدة)34. فالعالم اليوم   يشهد فاعلا دوليا جديدا يتمثل بالدور الصيني المتصاعد على الساحة الدولية من خلال تشكيل تحالفات دولية من خارج المنظومة الغربية وبناء هياكل دولية جديدة  لهياكل النظام الدولي أحادي القطبية،وأن أستراتيجية الصين  المتنوعة الانتماء الى القوى الكبرى ودول العالم الثالث بنفس الوقت يتيح لها بممارسة نفوذ سياسي عالمي(أن المزاوجة بين بين تقاليد القوى العظمى من ناحية وبين تأكيد الانتماء الى الدول النامية التي تحتاج التسهيلات أمام نشاطها التجاري بشكل خاص من الناحية الثانية)35.

كما ان روسيا اليوم وبعد حربها على أوكرانيا وتحديها لحلف الناتو غيرت من قواعد اللعبة واحدثت شرخا في توازن القوى وفر لها فرصة العودة الى ممارسة دور القطبية العالمية الذي فقدته منذ ما يقارب ثلاثة عقود ونصف من الزمان (أذ لم يعد دور روسيا مقتصرا على أستعمال حق النقض في مجلس الامن حيث خرجت عن صمتها أداء التدخل الامريكي في المجال الحيوي لها والتشديد على كون روسيا لاعبا دوليا لايمكن تجاوزه والعمل عل أنهاء الانفراد الامريكي على العالم)36.

مما سبق يؤكد أن  هناك نظاما عالميا  جديدا بدأ يتبلور مستندا على صراع حضاري يتجاوز الايديولوجيات السياسية والثقافية.

التوصيات:

1-بما ان التغيير هو الثابت الوحيد في عالم السياسية ،اذا صار تغير النظام العالمي حتميا واليوم نحن على أبواب أفول نظام القطب الواحد وأستقبال نظام عالمي جديد

2-النظام العالمي الجديد لم تتوضح كامل ملامحه وطبيعته ولكن ما يمكن التنبوء به هو اقرب الى نظام متعدد الاقطاب الجغرافي حيث تتسيد الصين اسيا وأفريقيا وروسيا على مساحة اوربا وامريكا على الامريكتين.

3- أن أنتهاء نظام القطب الواحد لايعني أنهيار الولايات المتحدة  وتفككها كما حصل مع الاتحاد السوفيتي بل أنها تشهد حالة انكفاء وأنسحاب من مناطق عديدة من العالم لصالح الاقطاب الجديدة.

4-أن النظام العالمي الجديد تستند أقطابه على حضارات متباينة ومتنافسة تمثل توجهات فكرية متصارعة كما توقع ذلك صمؤيل هنتغتون بان الصراع القادم هو صراع كتل حضارية .

5-على الرغم من مقدرات القوة التي يملكها الاتحاد الاوربي تجاريا وتكنولوجيا وأقتصاديا فانه لايمكن أن يشكل قطبا عالميا  كونه يفتقد وحدة القرار السياسي وأنسجامه  كما أن مقدرات القوة العسكرية التي تقف عليها القوة الجيوسياسية الحقيقية تأتي من نظام متعدد الاطراف وهذا يجعل تفككه أمر وارد خاصة بعد الحرب الاوكرانية

6-أن العوامل الثلاثة(العسكري-الاقتصادي-الحضاري) التي ساهمت بشكل كبير في التحولات  السابقة في النظام العالمي  نجدها تتجسد اليوم  بشكل واضح ممهدة لنشوء نظام عالمي جديد

 

 

 

 

 

 

الباحث

زهير حمودي الجبوري

قسم الدراسات السياسية

مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية

2022/7/10

 

 

 

المصادر

1-مايكل جيه مازار وأخرون: فهم النظام الدولي الحالي ، مؤسسة راند - كاليفورنيا-، دراسة منشورة على الموقع الالكتروني لمؤسسة راند  WWW.rand.or في عام 2016،ص7.

2-توماس فولجي واخرون:مستقبل النظام العالمي الجديد ودور المنظمات الدولية، المركز القومي للترجمة ، القاهرة، ط1،ترجمة: عاطف معتمد عزت،2011،ص28.

3-هنري كيسنجر: النظام العالمي ، تأملات حول طلائع الامم ومسار التاريخ، دار الكتاب العربي ، بيروت،ترجمة:فاضل جكر،2015،ص363.

4- د بو سبعين سعيد: النظام الدولي ، محاضرات منشورة على الموقع الالكترونيhttp:// she.univ-Bonita.dz

5- هنري كيسنجر: النظام العالمي، مصدر سبق ذكره،ص12

6-نيل فيرجسون: الصنم صعود وسقوط الامبراطورية الامريكية، العبيكان للنشر والتوزيع،المملكة العربية السعودية، ط1،ترجمة:معين محمد الامام،2006،ص20

7-ستيفان هالبر  و  جوناثان كلارك: التفرد الامريكي المحافظون الجدد والنظام العالمي،دار الكتاب العربي،بيروت،ترجمة:عمر الايوبي،2005،ص304

8-تيري ل .ديبل :أستراتيجية  الشؤون الخارجية -منطق الحكم الامريكي-،دار الكتاب العربي، بيروت، ترجمة:د وليد شحادة، 2009،ص97

9-هنري كيسنجر: النظام العالمي ، مصدر سبق ذكره ، ص13

10تيري ل ديل:استراتيجية الشؤون الخارجية منطق الحكم الامريكي ، مصدر سبق ذكره ،ص105-

11-ستيفان هالبر و جوناثان كلارك: التفرد

الامريكي ، مصدر سبق ذكره ،ص304

12-ا.د عبد علي كاظم المعموري: انكفاء الامبراطورية الامريكية ودور المقاومة العراقية،مركز العراق للدراسات ،ط3،بغداد،2016،ص160

13-د محمد عبد السلام:الجغرافية السياسية دراسة نظرية وتطبيقات عملية ، الموقع الالكترونيhttps:// noor book . Com

14-حيدر علي حسين: سياسة الولايات المتحدة ومستقبل النظام الدولي ،دار الكتب العلمية للطباعة والنشر،ط2،بغداد،2014،ص276

15- المصدر السابق نفسه ،ص282

16-هنري كيسنجر: النظام العالمي الجديد ،مصدر سبق ذكره ،ص: 360.

17-زبيغنيو بريجنسكي: رؤية أستراتيجية أمريكا وأزمة السلطة العالمية،دار الكتاب العربي،بيروت،ترجمة:فاضل جكر،2012،ص19.

18-تيري ل.دييل:أستراتيجية القوة الخارجية  منطق الحكم الامريكي ،مصدر سبق ذكره،ص97.

19-زبيغنيو بريجنسكي:رؤية أستراتيجية أمريكا وازمة السلطة العالمية ،مصدر سبق ذكره، ص20.

20- د ياسر عبد الحسين:القيادة في السياسة الخارجية الامريكية بعد الحرب الباردة ،دار مكتبة عدنان،ط1،بغداد،2015.ص209.

21-هنري كيسنجر:النظام العالمي الجديد،مصدر سبق ذكره ،ص363.

22-مقال منشور على موقع bbc.com في أيار 2022.

23-تصريح منشور على موقع قناة فرنسا 24 بتاريخ 2022/4/27 على الموقع الالكتروني:https://www France 24.com

24-غراهام أليسون:حتمية الحرب بين القوة الصاعدة والقوة المهيمنة،دار الكتاب العربي،بيروت،تعريب:أسماعيل بهاء الدين سليمان،2018،ص134.

25- نفس المصدر السابق ،ص138.

26-عبد المطلب عبد الحميد:النظام العالمي الجديد وأفاقه المستقبلية بعد احداث11سبتمبر ،مجموعة النيل العربية،ط1،مصر،2002،ص339.

28-منير مباركية:أستراتيجيات القوى الكبرى في مواجهة سياسات الاحتواء العالمية -حالتي روسيا والصين-،رسالة ماجستير مقدمة الى كلية العلوم السياسية والاعلام في جامعة الجزائر -بن يوسف بن خده،2008،ص33.

29-رحايلي سعاد:الصعود الاستراتيجي الروسي-الصيني وتأثيره على بنية النظام الدولي،رسالة ماجستير مقدمة الى مجلس  كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة 8ماي 1945،قادمة،الحزائر ،2018-2019،ص142

30-هنري كيسنجر: النظام العالمي ،مصدر سبق ذكره،ص363.

31-فوزي نور الدين: تحليل الصراعات الدولية بين الابعاد الثقافية والاعتبارات الاستراتيجية ،بحث منشور في مجلة العلوم الانسانية ،جامعة محمد خيضر ،بسكرة،الجزائر ، العدد:36-37،2014،ص177-178.

32-عمرو عمار: نهاية القرن الامريكي وبداية القرن الاوراسي، دار سما للنشر والتوزيع ،ط1،جمهورية مصر العربية،2018،ص109.

33-محمد سعدي:مستقبل العلاقات الدولية من الصراعات الحضارية الى أنسنة الحضارة والثقافة والسلام،مركز دراسات الوحدة العربية،ط2،لبنان،2008،ص91.

34-فوزي صلوخ :أمركة النظام العالمي الاخطار والتداعيات،دار المنهل اللبناني،ط1،بيروت،2002،ص280.

35-منير مباركية: استراتيجية القوى الكبرى في مواجهة سياسات الاحتواء الامريكية،مصدر سبق ذكره،ص38

36- رحايلي سعاد: الصعود الاستراتيجي الروسي -الصيني وتأثيره على بنية النظام الدولي،مصدر سبق ذكره،ص143.