كازاخستان توظيف الازمة المحلية في الصراعات الدولية

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2022-03-13 08:01:12

زهير حمودي الجبوري

قد تتباعد الجغرافيا وتتباين الامم ولكن الاحداث تتشابه من ناحية الأسباب والدوافع والغايات، وإن بدت للناس بأنها غير مترابطة ولكنها في نظر الباحث والمختص تبدو متصلة مع بعضها بل تكون محركاتها واحدة .

فمن أوربا الشرقية كانت انطلاقة عاصفة الاحتجاجات الشعبية بعنوان الثورات الملونة حتى الشرق الأوسط بمظلة الربيع العربي لتصل الى اسيا الوسطى لتنفجر عنيفة  ومفاجئة في كازاخستان  محدثة  اعداد كبيرة من القتلى والجرحى  وحرق عدد من المؤسسات الحكومية فرضت على الحكومة استدعاء قوات اجنبية لإخماد حركة الاحتجاجات بحجة تعرض البلاد الى مؤامرة خارجية تستهدف امن واستقرار البلد، ولقراءة الحدث قراءة واعية ودقيقة نحتاج اولا ان نطلع الموقع الجيوسياسي لجمهورية كازاخستان للوصول الى جذر الاحداث ودوافعها .

 

الموقع الجيوسياسي لكازاخستان:

اسم كازاخستان يتكون من مقطعين الاول "كازاخ" وهي كلمة تركية تعني الحر، والثاني "ستان" وهي كلمة فارسية تعني الوطن أو الأرض وعندما جمع المقطعين تكون "وطن الأحرار".

من ناحية المساحة تعتبر كازاخستان من بين اكبر دول اسيا الوسطى (2700 كم مربع) وأكبر الدول الاسلامية مساحة وتحتل المرتبة التاسعة عالميا من حيث المساحة.

هذه المساحة الشاسعة صنعت لها حدود طويلة مع عدد من دول اسيا الوسطى وغيرها ولكن اهم هذه الحدود مع روسيا وبمسافة تصل الى 6846 كم ومع الصين بـ 1533 كم كما انها متشاطئة مع ايران على بحر قزوين وسيكون لهذا التجاور الجغرافي دورا محتملا في احداث الاحتجاجات.

اما سكان كازاخستان فهم 5'18 مليون نسمة يشكل الكازاخيون ما نسبته 63% والباقي من الروس والاتراك والاويغور والتتار والاوكرانيين، ويدين 70% من الكازاخيين بالدِين الاسلامي  و26% يدينون بالمسيحية،  كما ان هناك أقلية يهودية تسعى اسرائيل  لتهجيرهم لها، وهذا التنوع العرقي والديني يعد مدخلا لأحداث بعض الانقسامات المجتمعية الحادة.

اما اقتصاد كازاخستان فهو الاقتصاد الاقوى في اسيا الوسطى إذ بلغ الناتج المحلي 179 مليار دولار في عام 2020، وحجم التجارة الدولية 93 مليار دولارسنويا وارتفع معدل النمو الى 4،5%، وتعتبر كازاخستان من الدول المصدرة للنفط والغاز مع توفر كميات جيدة من معادن مهمة اخرى، وتشكل أراضيها حوالي 20% من الاراضي الزراعية في الاتحاد السوفيتي السابق.

النظام السياسي في كازاخستان  رئاسي وينتخب الرئيس من قبل الشعب انتخاب مباشر ومدة الحكم 5 سنوات وهناك مجلسين تشريعيين منتخبين مع نسبة معينة من قبل الرئيس  (مجلس شيوخ بـ 39 مقعد ومجلس نواب من 107 مقعد) وتتكون كازاخستان من 14 مقاطعة، ويوجد فيها 10 احزاب سياسية رسمية، وكانت كازاخستان اخر جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق التي أعلنت انفصالها واستقلالها عام 1991  ولكنها انضمت الى معاهدة الامن الجماعي التي ضمتها جنب روسيا وعدد من الجمهوريات المستقلة الاخرى في عام 2002 والمنبثقة من معاهدة "طاشقند" عام 1992 والتي نتج منها تشكيل قوة ردع سريع لمواجهة التحديات الامنية التي تتعرض لها الدول الموقعة على هذه المعاهدة.

دوافع وأسباب الاحتجاجات:

لكل حدث سياسي دوافع ظاهرة ومحركات كامنة تحتاج الغوص في العمق السياسي المحلي والدولي للوصول الى حقيقته، فكان قرار الحكومة برفع اسعار الغاز المسال الذي يستخدمه المواطنون للتدفئة ووقود للعجلات، الذي اثر بدوره على ارتفاع أسعار مجمل السلع الاستهلاكية الاخرى هو المحرك الاول والظاهر لاحتجاجات غاضبة، رافقتها اعمال عنف راح ضحيتها العديد من القتلى من الأجهزة الامنية والمواطنين، وحرق عدد كبير من البنايات والمقرات الحكومية، مع مشاهد بشعة تمثلت بعملية ذبح لأحد رجال الامن لترتبط بمشاهد مماثلة لعمليات اقدمت عليها التنظيمات الإرهابية في دول اخرى ، مما استدعى الدولة الاستعانة بالقوات الروسية (20 الف مقاتل) لإخماد حركة الاحتجاجات وفقا لبنود معاهدة الامن الجماعي الداخلة فيها كازخستان .

يرى المختصون في السياسة الدولية ان ارتفاع الأسعار كان الذريعة لانطلاق احتجاجات منظمة ومعدة سلفا لتحقيق غايات دولية تدخل ضمن صراع المحاور الدولية الاقتصادية والسياسية مستندين على دقة تنظيم وتوزيع حركة الاحتجاج المدروسة، ويقارب اخرون بينها مع احداث أوكرانيا التي أنتجت نظاما سياسيا مواليا للغرب للتضييق على طموح روسيا الجديد بأن تكون منافس للولايات المتحدة والغرب، لتكون كازخستان بمساحتها الشاسعة وحدودها الطويلة مع روسيا جدارا عازلا بوجه روسيا، وأن الغرب تقوده الولايات المتحدة التي سعت الى خلق بؤرة صراع جديدة في جوار روسيا لإشغالها عن التنافس مع الناتو من جهة، والتخفيف عن جبهة أوكرانيا المتأزمة بين الطرفين، لذلك كان التدخل الروسي القصير في كازاخستان قد حقق هدفه في إنهاء التوتر الامني في حدوده القريبة وأجهض تكرار تجربة التغيير السياسي الحاصل في أوكرانيا، وزاد من ثقة دول معاهدة الجماعي من قدرة روسيا على حماية انظمتها عند وجود المخاطر وكسب رضا الشعب الكازاخستاني الذي كان متخوفا من أن يتحول الوجود الروسي الى وجود دائمي او أشبه بالاحتلال، كما انه فند رؤية وزير الخارجية الامريكي بقوله (من دروس التاريخ هو انه بمجرد وجود الروس في منزلك يكون من الصعب احيانا إقناعهم بالمغادرة) لتعلن روسيا عمليا ان لا أطماع لها في اراضي دول الجوار بل هناك مخاوف أمنية في سياجها الجغرافي  يتحتم عليها التدخل لمنع توسعها وإخمادها .

وأشارت بعض التقارير الصحفية المنشورة إلى ان احداث الاحتجاجات تقع ضمن الصراع الدولي، وأن الولايات المتحدة قدما دعما لعدد من منظمات المجتمع المدني  والحركات الليبرالية التي درس أعضاؤها في الجامعات الغربية، من المنادين بالانضمام الى الاتحاد الأوربي مع مجموعات مستعارة من دول محاورة  من إخلال إشراك أفرادها في دورات قانونية واعداد قادة رأي وناشطين على صفحات التواصل الاجتماعي وصار مقر عملياتها في مدينة "الما اتا" العاصمة السابقة لكازاخستان وتدار من قبل غرفة عمليات مشتركة مقرها أوكرانيا، هذه الجماعات تخادمت مع بعض من عناصر داعش المنسحبين من سوريا والعراق الذي تم نقلهم بخطة لقيادة العمليات المركزية الامريكية في قطر بعد أعدادهم في تركيا وافغانستان كما اشارت التقارير وتسريبهم الى جمهوريات اسيا الوسطى وبالخصوص كازاخستان لأحداث هذه الاضطرابات والتوجه مباشرة للسيطرة على المطار ليكون قاعدة لاستقبال الدعم الدولي للمحتجين والذي يثبت وجود هؤلاء هو مشاهد عمليات الذبح التي ارتبطت في ذهنية المتلقي بسلوك داعش والتنظيمات الإرهابية  والتي افشلها سرعة وصول القوات الروسية وإجهاض المحاولة الغربية كما تتصور حكومة كازاخستان وروسيا .

وهناك دافع اخر لروسيا في سرعة تحركها لانهاء احتجاجات كازاخستان يتمثل في تأجير روسيا لمساحة 6000 كم مربع بعقد ايجار يمتد لعام 2050 المشغول لمجمع "بيكو نوBaykonur " الفضائي والذي يعد اكبر مطار فضائي في العالم وقاعدة لتجارب الصواريخ الباليستية العابرة للقارات والصواريخ الحاملة الى الفضاء واليوم تتخذها روسيا كقاعدة لإطلاق صواريخ "سويوزا" الروسية.

بعض المحللين يعطي للازمة الكازاخية بعدا دوليا اخر إذ يرتبط بالصراع الاقتصادي والجيوسياسي بين الصين والولايات المتحدة حول إيجاد مساحة نفوذ تجاري، إذ سعت الصين الى الارتباط مع كازاخستان باتفاقيات اقتصادية مشتركة ضمن مشروع طريق الحرير الصيني معتمدة حالة الاستقرار السياسي والقوة الاقتصادية لكازاخستان مع كوّن اراضي كازخستان منغلقة على البحار الدولية المفتوحة توجت بإنشاء طرق برية بطول 10 الاف متر و2500 كم من سكك الحديد لنقل بضائع تقدر بـ 30 مليون طن سنويا من الصين الى أوربا الغربية عبر 60 مسارا يربط 45 دولة يمر فيها الطريق ليكون العمود الفقري للنقل الدولي بميزة قصر المسافة والسرعة العالية وسلامة الشحن، ومع أزمة كورونا العالمية وتوقف الشحن الجوي ارتفعت نسبة التشغيل على الطريق البري بـ 44% عن السنوات السابقة وبهذا اصبحت بضائع الصين الرخيصة التكلفة منافسا قويا للبظائع الامريكية حتى في الدول الأوربية الغربية مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مما يشكل حالة انزعاج أمريكي لتغلغل اقتصادي صيني في بيئة تعتبرها الولايات المتحدة منطقة نفوذ لها في أوربا .

وهناك بعد دولي اخر يمكن ان يكون دافعا للازمة الكازاخية يتمثل في موقعها على بحر قزوين الذي يمنحها حدود تشاطئية قبالة ايران والتي تحاول امريكا تضييق الحصار الاقتصادي المفروض عليها بسبب مشروعها النووي، وان وجود حكومة موالية لامريكا في كازاخستان يزيد من حلقة التضييق والخناق على ايران للحد من طموح ايران الإقليمي للتوسع في مناطق اسيا الوسطى، وهذا ما دفع بوزارة الخارجية الإيرانية إلى إصدار بيان يؤكد على أهمية استقرار وأمن كازاخستان خاصة اذا ما علمنا بان أقلية فارسية شيعية تقطن مدينة (ميركي) ويطلق عليها قم كازاخستان تشبها بمدينة قم الإيرانية مركز الحوزة العلمية في ايران، وتقع المدينة جنوب كازاخستان وتشكل موطيء قدم ايراني هناك.

دروس وعبر:

ان امتلاك  الدولة مقومات القوة من مساحة وموقع جغرافي وموارد اقتصادية  وتنوع ديموغرافي قد تتحول الى نقاط ضعف وأسباب لتكون الدولة بؤرة صراع لقوى اكبر مالم تعتمد على سياسات الحكم الرشيد وتوضيف نقاط القوة لصالح بناء الدولة مع اتباع سياسة خارجية متوازنة مع المحاور العالمية المتنافسة لذلك على الدول ان تحصن نفسها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا حتى لا تُستغل ازماتها الداخلية لتكون بابا من ابواب التدخل والنفوذ الخارجي وصراع الإرادات بين المحاور العالمية الطامحة لتوسعة مناطق النفوذ على حساب الدول وشعوبها ، وقد نجد تشابه كبير للنموذج الكازاخستاني في منطقة الشرق الأوسط إذ لم يمنع الموقع الجغرافي وقوة اقتصاد بعض الدول ان تتحول الى ساحة صراع دولي من خلال النفاذ الى داخل الدولة باستغلال نقاط ضعف مثل التنوع الديموغرافي والفساد وفشل الأداء الحكومي وغياب الرؤية السياسية الموحدة والتبعية لجهات خارجية