واقع مراكز الدراسات في صنع القرار، بين الضرورة الاستراتيجية و تحديات المستقبل

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2022-03-03 16:44:54

د. محمد الساعدي

قسم الدراسات السياسية

ان تسليط الضوء على البحث العلمي والعناية بمؤسساته كالجامعات، ومراكز الأبحاث بشكل خاص،  له دور أساسي في عملية صنع القرار, فضلاً عن تحديد المسارات التي تسلكها الدول في تعاملها مع القضايا التي قد تنعكس سلباً او إيجابيا على طبيعة القرار السياسي المتخذ، فيما يتعلق به من استشراف للمستقبل.

وهناك اختلاف في المسميات التي تطلق على مراكز الابحاث المقصودة، على الرغم من التفاوت الزمني بين بدايات مراكز الفكرThink Tanks) )، فهناك من يسميها معاهد (Institute) أو مؤسساتFoundations) ) او أوقاف (Endowments) او صناديق Funds))، وهناك من يسميها Think Tank)) اوBrain boxes) ) او غيرها من المسميات، ولكن الحقيقة أن هذه المسميات مهما تنوعت  تشير إلى معنى واحد وهو تقديم الأفكار العلمية الواقعية لكافة المؤسسات، طالما أن الرؤية والرسالة والأهداف لكل منها هي واحدة، كونها تنجز الدراسات والبحوث الموجهة لصانعي القرار من خلال توصيات تمكن صانع القرار من صياغة سياسات ناجحة حول قضايا الدولة وطرق معالجتها بشكل صحيح وعلمي.

ويمكن تعريف مراكز الدراسات او الفكر بأنها: مؤسسات تعمل على تقديم الدراسات والبحوث الموجهة لصانعي القرار داخل المؤسسات الحكومية، والتي تتضمن العديد من التوجيهات أو توصيات معينة حول القضايا المحلية والدولية، من اجل تمكين صانعي القرار السياسي من صياغة سياسات حول قضايا الدولة العامة.

كما تعرف أيضا بأنها مراكز صنع أو إدارة المعرفة البحثية العلمية، والتخصص في كافة المجالات، وبما يخدم صنع أو تطوير أو تحسين السياسات العامة للحكومات أو تصحيح القرارات أو بناء الرؤى المستقبلية للمجتمع أو الدولة.

وعلى هذا الأساس يحتاج إلى التعمق في أسباب عدم فعاليتها في الكثير من المجالات سواء الأكاديمية او الحكومية، كونها أخذت مكانة في عملية إصدار العديد من الأبحاث العلمية فضلا عن تقديم أوراق سياسية (policy paper)، التي يحتاجها صانع القرار في القضايا المتعلقة بالمصلحة العليا للدولة، حتى صارت تمثل أحد اهم  الدلائل الهامة على تطور الدولة واهتمامها بالبحث العلمي، انطلاقاً من  الضرورات المجتمعية الملحة في الوقت الراهن كون تلك المراكز تعد الرافد المهم لكثير من الحلول التي تحاول معالجة جميع تحديات التي يواجها صانع القرار، وعلى هذا الأساس يفترض أن تأخذ مراكز الفكر الدور الأساسي في جميع مؤسسات الدولة. 

ولا يخفى أن الإنفاق المالي على البحث العلمي يُعد أحد المؤشرات الهامة لقياس تقدم الشعوب ومعرفة مدى اهتمام وتقدير الحكومات لتدعيم مسيرة العلم والتقدم التكنولوجي جانب، والارتقاء بمجالات التنمية وتحقيق رفاهية الشعب من جانب آخر، وقد تم التعارف على معاير خاصة تساعد على تشخيص أماكن الضعف في عملية توظيف القدرات البحثية في كل دولة، التمييز بين ثلاث فئات من الدول: فئة تتمتع بقوة بشرية علمية كبيرة ولكن تعجز قدراتها المالية عن الاستفادة منها، ودول أخرى لديها إمكانات بشرية محدودة أو ضعيفة، ولكنها تتمتع بموارد مالية كبيرة، ودول أخرى ينقصها الإمكانات المالية والبشرية.

على هذا الأساس فإن أي خلل في التوازن بين العناصر البشرية والمادية يعرقل أي تقدم ممكن في البحث العلمي، ووفقًا لبيانات معهد اليونسكو للإحصاء، التي جمعت عبر مسوحات إقليمية مصغرة، فإن 4 بلدان فقط حول العالم تنفق ما يزيد على 100 مليار دولار سنويًا على البحث والتطوير، تأتي في مقدمتها الولايات المتحدة ثم الصين.

 في حين تقع بعض الأخطاء داخل مراكز الفكر من خلال  السماح لأشخاص ليس لديهم مؤهلات علمية تمكنهم القيام بأبحاث علمية واوراق سياسية (POLICY PABER) من اجل تصحيح مسار معين او المساهمة بحل المشاكل داخل الدولة، على الرغم من افتتاح مراكز دراسات استراتيجية متعددة ولكن بقيت بمحدودية بسيطة، وبهذا لا يمكن ان تأخذ مساحتها الكبيرة في صنع القرار.

بالإضافة إلى أن بعض مراكز الدراسات تقوم بتحليل المشاكل أو قضايا الدولة وفق ما يريده الزعيم أو القائد السياسي وبما يناسب تفكيره، أي عدم تقديم كافة المعطيات التي من الممكن أن تؤدي إلى صياغه القرار المناسب.

وفي جانب اخر احتلت بعض مراكز الدراسات العربية مراتب متقدمة مقارنة مع المراكز الأخرى حسب تصنيف جامعة بنسلفانيا الامريكية، الطبعة الخامسة عشرة من تقرير الجامعة السنوي حول ترتيب مراكز الفكر في العالم للعام 2020 .

 وعلى هذا الأساس لكي تقوم مراكز الفكر بالأداء صحيح داخل منظومة صنع القرار الحكومي تحتاج عدة شروط:

1- إعادة النظر في القوانين والأنظمة والتعليمات المرتبطة بمراكز الأبحاث والدراسات في العراق، لمنع الفوضى والارتباك الذي يسودها، وإعطاء الصفة القانونية لمخرجات هذه المؤسسات كموجهات وعناصر دعم سواء في صنع القرار او رسم السياسة العامة للوزارات والمؤسسات التابعة لها فضلاً عن رسم السياسة العامة للبلد وصنع القرار الوطني.

2– الإيعاز إلى المؤسسات الحكومية لتأخذ بعين الأهمية ما يصدر عن هذه المراكز من مخرجات لاعتمادها في الجوانب العملية ذات الصلة، وترك العمل بالعقلية الارتجالية غير المحترفة في إدارة المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، والتي لم تجلب إلى البلد إلا الخيبة والفوضى، وهدر الوقت والمال.

3–  تأسيس مراكز أبحاث في جميع  الوزارات العراقية أو على الأقل في الوزارات المهمة والحيوية على الرغم من وجود بعض مراكز الدراسات لبعض الوزارات، ويكون ارتباط تلك المراكز بمكتب الوزير مباشرة، وتضم باحثين متفرغين مهمتهم رصد القضايا والتطورات المختلفة داخل العراق وخارجه، وإعداد الخطط والدراسات اللازمة لمساعدة الوزراء وهيئات الرأي على اتخاذ القرارات المرتبطة بالارتقاء بعملهم ورسم ملامح السياسة العامة لوزاراتهم.

4- الارتقاء بمكانة ومستوى مراكز الأبحاث الوطنية بالمراكز الإقليمية والدولية المناظرة، مع إعطائها الحرية والمرونة الكافية للتحرك والبحث، وبناء المواقف وتبادل الخبرات.

5- يمكن لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية أن تستفيد من مراكز الأبحاث التابعة لها في إعداد المناهج التدريسية للطلبة في الجامعات، على أن توفر لهذه المراكز البنية التحتية اللازمة من الدعم والتمويل والتدريب.

6- ضرورة رسم استراتيجية واضحة من أجل تأسيس مراكز الأبحاث في أعلى المستويات، وأن يكون لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي دور كبير ومؤثر في رسم هذه الاستراتيجية.

7- إدراك أن المراكز البحثية ليست صرحا يقام على التجربة والخطأ والميول والرغبات، بل هي عقل مفكر قد يتوافق أحيانا مع بعض المنطلقات الحكومية، وأحيانا أخرى قد يتقاطع معها بشدة، وفي كلا الحالين يجب احترام دورها والسير على هدى استشاراتها مع توفير الحرية اللازمة لها لتنجز عملها بموضوعية واحترافية.

8- توفير التمويل المالي المستقر والدعم المؤسسي القوي من اجل نجاح مراكز الأبحاث والدراسات في تحقيق أهدافها، على أن يكون التمويل والدعم كافيان لتأمين المستلزمات المادية والبشرية التي تحتاج إليها لتمويل نشاطاتها كافة