التعليم العالي والسياسات العامة في العراق ... جدل النظري والممكن

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2021-10-25 06:44:16

علي عبد الهادي المعموري

مدخل

مع التطور العلمي الهائل الذي نشهده في عصرنا الحاضر، ومع شياع الاستثمار في المعرفة ضمن المجتمعات المتقدمة، يتربع التعليم والتعليم العالي على قمة هرم  أولويات الدول القوية، فمخرجات التعليم هي التي تقود الدولة آخر الأمر، وتسهم في رفع رصيدها السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي، وتعزز قوتها، سواء عبر رفدها بالعقول التي تبدع علميا، أو تلك التي تسهم في حل المشاكل عبر السياسات العامة للبلد.

وبالقدر الذي تكون فيه إدارة الدول خاضعة للمعايير العلمية، والحوكمة، والدقة في التشخيص لوضع الحلول، فإن سياساتها العامة، التي تتبلور داخليا وخارجيا، تزداد قوة، وتحقيقا للأهداف المنشودة، الأمر الذي يجعل التشبيك بين مجتمع المعرفة في الجامعات، وبين الإدارة السياسية للدولة أمر لابد منه، عبر توجيه الجامعات الى أولويات الحكومة، والتشارك في صياغة تلك الاولويات، وإعادة ترتيبها، ووضع المسارات المعرفية اللازمة لها.

التعليم والبيروقراطية العراقية.. القطيعة النظرية

تأخذ العلاقة بين الجامعات والإدارة الحكومية في العراق ـ سواء كانت سياسية أم بيروقراطية ـ مسارا متعثرا، تتحمل فيه الحكومة مسؤولية التعثر ولا ريب، ولكن هذا لا يعني أن الجامعات غير مسؤولة بدورها، بل إنها تكاد أن تشاطر الحكومة المسؤولية حول هذا التعثر.

لقد قادت القطيعة المعرفية مع العالم المتقدم خلال سنوات الديكتاتورية والحصار الى عدم تطور أنظمة التعليم في العراق، سواء في العلوم الاجتماعية أو العلوم التطبيقية، فقد تأخرت الجامعات العراقية عن تطوير قدراتها المعرفية في مختلف المجالات، وغرقت في جدل نظري في العلوم الاجتماعية، بطريقة أبعدت الطلاب عن فهم الحاجات المباشرة للإدارات الحكومية، مع حذر كبير في تناول القضايات الاشكالية، باستثناء بعض الكليات التي كانت رائدة في فتح قسم لدراسة السياسات العامة وربطها بالنظام السياسي.

وبعد العام 2003، وجدت الجامعات العراقية نفسها أمام استحقاق تطوير عاجل، وعلى الرغم من الجهود الحثيثة المبذولة في هذا الجانب، فإن المشاكل الأمنية، والتقلبات التي ترافق عادة عمليات البناء الديمقراطي للدول تدخلت مرة أخرى وعرقلت مسيرة تحديث التعليم ومحاولة سد الفجوة المعرفية التي اتسعت إبان العقود السابقة، وتعقدت موضوعة الحريات الاكاديمية مرة أخرى، وبالطريقة ذاتها، غرقت الجامعات على مستوى الدراسات الأولية أو العليا بجدل نظري، لا يمس الحاجات المباشرة للنظام السياسي ومؤسساته البيروقراطية، تجنبا للمشاكل التي قد تترتب على مناقشة بعض القضايا الشائكة، أو سعيا من الطالب والاستاذ المشرف الى اختيار عناوين ذات وقع اعلامي اكثر من كونها ذات جدوى فعلية في العراق.

سنلاحظ أن خريجي التعليم العالي يدخلون الى سوق العمل ـ الحكومي أو القطاع الخاص ـ بمعرفة نظرية على مسافة بعيدة عن الواقع العملي للسوق، بما يضطرهم الى إعادة التعلم من الصفر في أغلب القطاعات، مع غياب المختبرات الفعلية والمعايشة المباشرة مع المؤسسات ذات العلاقة بتخصصهم، سواء كان علميا يصطدم بنقص المختبرات في الجامعة، أو انسانيا لا يعرف تعقيدات القوانين العراقية المترهلة والبيروقراطية العراقية الملتوية.

الطلاب أم النظام التعليمي؟

في الواقع لا يتحمل طرف واحد مسؤولية هذا التدهور، فبالقدر الذي لا تزال فيه الجامعات غير قادرة على تطوير نفسها ـ بل أن البعض من التقليديين كانت وطأتهم ثقيلة على تجارب تحديث سبقتهم لاغراض شخصية أو لطبيعتهم التقليدية ـ فإن الكثير من الطلبة أيضا لا يمتلكون الرغبة الكافية بالعمل وتطوير الجانب التطبيقي لدراستهم.

تحرص الجامعات الغربية على التشبيك مع الشركات والحكومات لتمويل برامج دراسات معينة تعود مخرجاتها الى تلك المؤسسات، وخلال مرحلة كتابة الاطاريح أو رسائل الماجستير، ينتج الطلبة الكثير من الاوراق البحثية المتناغمة مع عملهم البحثي، وتجد طريقها الى التنفيذ لدى المؤسسات المعنية، أو الى النشر في أقل التقادير، الأمر الذي لا نجده للاسف في العراق، حتى تبدو رسالة الماجستير أو اطروحة الدكتوراه للطالب كأنها نهاية العالم، فلا يرغب بالكتابة خارج أطرها خلال عمله البحثي، حتى لو كانت اوراق ذات افكار مستلة من عمله، وتخضع للتبسيط لتصبح صالحة لتكون اوراق توصية سياسية قابلة للتنفيذ، وهي مشكلة أخرى يعاني منها قطاع التعليم، اساتذة وطلبة، أعني قابلية تنفيذ الأفكار.

من جانب ثاني، في أحيان كثيرة، تبدو الاوراق الاكاديمية منفصلة عن الواقع، أو مغرقة في المثالية، ولا يكاد المستعين بالدراسات تلك أن يجد منها منفذا لتتحول الى سياسات عامة قابلة للتطبيق، حتى كأن الباحثين يعيشون في مجتمع آخر غير مجتمعهم، ولا يعرفون التعقيدات السياسية، ولا يرغبون بالخوض بالتعقيدات البيروقراطية التي يمكن أن تعترض توصياتهم ـ إذا وجدت ـ وتمنع تطبيقها.

إن مشكلة عدم التفكير بالحلول والاقتصار على سهولة تشخيص المشاكل لا تزال تشكل عقبة كبرى أمام التشبيك بين المجتمع الأكاديمي بوصفه حاضن المعرفة وبين السياسات العامة للحكومة، وللمشكلة عناصر متعددة أولها المناهج التقليدية  التي لا تزال غير قادرة على مواكبة التعقيدات الحاصلة في عصرنا الحاضر، ومنفصلة عن التطبيقات العالمية المتسارعة حتى في العلوم الاجتماعية، وثانيها غرق الطلبة في الدراسات النظرية وجفائهم لاكتساب الخبرة العملية بالاحتكاك والمحاولة وممارسة عملية كتابة اوراق التوصية السياسية، لعجزهم عن تقديم الحلول أحيانا، أو لنقص معرفي في أحيان أخرى، والأمر ينطبق أيضا على عدد كبير من الاساتذة، المتجهين للعمل على مراكمة البحوث النظرية التي تناقش المشاكل العامة، ربما لغرض الترقية العلمية، مع جفاء لتقديم الحلول القابلة للتطبيق.

ولوزارة التعليم العالي دور في هذه المشكلة أيضا، فمحاولتها ترصين النتاج الاكاديمي والتركيز على البحوث  المحكمة والنشر في الدوريات ذات معامل التأثير العالمي عزز أيضا عزوف أعضاء الهيئات الأكاديمية عن التعامل مع المؤسسات الحكومية التي تطلب توصيات سياسية عاجلة، مبسطة، واضحة وذات تركيز على هدف معين، وتقدم حلا عمليا ممكن التطبيق، وهذه مشكلة لا يمكن حلها بدون توجيه الوزارة للهيئة الاكاديمية باعتماد مقدار تعاون الاساتذة مع الهيئات الحكومية وقدرتهم على صناعة القرار كمعيار يضاف لتقييم الأداء السنوي للاستاذة.

ولرب قائل يثير مشكلة عدم الأخذ بالمقترحات من قبل الهيئات الحكومية المعنية، والإجابة على هذا الاشكال بشقين، الأول من بينهما هو أن بعض تلك المقترحات قد لا تكون عملية بالضرورة وقابلة للتطبيق، لأنها تكون نظرية مغرقة بالمثالية، الأمر الذي لا ينفع كثيرا في عملية صنع السياسات العامة في بيئة معقدة.

الثاني يتمثل بنفاد الصبر الاكاديمي لدينا، بعد سنوات طويلة من التعامل مع مؤسسات متخصصة بتقديم التوصيات السياسية على المستوى العالمي في بريطانيا والولايات المتحدة، وجدت أن الأمر لم يكن مختلفا من ناحية التعثر في تنفيذ التوصيات، التي تأخر تنفيذ بعضها لعقود على الرغم من أن معديها من بين أفضل العقول الأكاديمية الغربية العاملين في مؤسسات ذات سمعة وخبرة، الأمر يتعلق بالتعقيدات السياسية من جانب، وبأهمية التوصية وقدرتها على لفت نظر صانع القرار، وبالصبر والمواضبة على الاقتراح تلو الاقتراح حتى يلتفت صانع القرار ويأخذ بالتوصية، ويوسعها لتصبح مشروعا حكوميا، أو تشريع قانوني ملزم.

بكل الأحوال، هذه دعوة للأساتذة الكرام في الهيئات الاكاديمية لتوجيه بحوثهم تجاه حل المشاكل بطريقة عملية، المشاكل التي يعانون منها بنفسهم، وأن يوجهوا طلابهم بهذا الاتجاه، كما أنها دعوة للطلاب لعدم التذرع برسائلهم واطارحيهم للعزوف عن الكتابة في مواضيع جانبية، قد تكون معززة وداعمة لعملهم البحثي الأساسي، ومساهم أساس في رسم مستقبلهم الاكاديمي والعملي، والاستفادة من قرائاتهم المتنوعة في استلهام التجارب الأخرى إقليميا ودوليا ومحاولة بناء نماذج محلية تستفيد من الخبرات الأخرى في المشاكل المشابهة، دون الاقتصار على المواد النظرية، أو المطالب المثالية التي يعسر تطبيقها بشكل عاجل، وتحتاج الى بناء طويل الأمد، يتكون شيئا فشيئا عبر التعامل بالممكنات للوصول الى تلك الاهداف، وأن يستمروا بالاقتراح وتطوير افكارهم بشكل عملي دون احباط من الرفض، الذي سيواجههم في حياتهم العملية والعلمية بشكل كبير.