وهم العملة….الرقمية

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2021-08-12 09:36:12

د. رائد صاحب سعدون

قسم دراسات الأزمة والمخاطر

أصبحت العملات الرقمية محط اهتمام الكثيرين في الآونة الاخيرة ، خاصة في ظل نمو عمليات الشراء والمعاملات الرقمية من خلال الانترنت اثناء فترة تفشي وباء كورونا ، إلى درجة قيام كبريات شركات التكنولوجيا بتبني مثل هكذا عملات ، وقيامها بمحاولات لاصدارها أو حتى مجرد الاستثمار فيها رغم التحذيرات الرسمية.

حيث أدت سياسات الإغلاق التي انتهجتها الحكومات نتيجة لتفشي الوباء الى نشوء وضع جديد وقد يكون غير مسبوق على مستوى العالم ، والذي بدوره أثر تأثيرا كبيرا في شتى مجالات الحياة ولم يستثني الجانب التكنولوجي ، حيث امتد تأثيره ليشمل تسريع عملية التحول الرقمي التي يشهدها العالم ، كما نلاحظ توجه الكثير من الشركات والمؤسسات إلى إعادة ترتيب أولوياتها خاصة بعدما بينت الأحداث انتعاش قطاعات اقتصادية معينة على حساب قطاعات أخرى.

ففي الوقت الذي تتكبد فيه قطاعات الاقتصاد التقليدية الكثير من الخسائر، نجد في الجانب الآخر انتعاشا ملحوظا في قطاعات التكنولوجيا والاقتصاد الرقميين. كمثال على ذلك هو تراجع الطلب العالمي على الرحلات الجوية نتيجة لقيود السفر بنحو 60% في العام الماضي وفقا لأرقام اتحاد النقل الجوي الدولي [1] في حين تسجل أسهم شركة زوم (ZOOM) ارتفاعا بنسبة 40% لنفس الفترة وذلك بفضل تزايد الطلب على تكنولوجيا العمل عن بعد [2]. ويشير الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) إلى أن بعض مشغلي الانترنت ابلغوا عن ارتفاع الطلب على الخدمات والمنصات بنسبة تصل الى 800% [3]، مما يؤشر الى انتقال ازدحام وزخم الحركة من الشوارع إلى الإنترنت ، والذي يرافقه ازدياد في استخدام وتبادل البيانات داخل الشبكة نتيجة لهذا الزخم ، والذي بدوره يعد مؤشر على التسارع الكبير الحاصل في عملية التحول الرقمي التي يمثل الاقتصاد الرقمي جزأ منها.

ومما يلفت الانتباه هو مساهمة التكنولوجيا الرقمية في الحد من انعكاسات الجائحة على قطاعات الاقتصاد التقليدية ، وابقائها ضمن حدود معقولة ، اذ ان اغلب العمليات التجارية لكثير من هذه القطاعات تحولت لتدار عن طريق الإنترنت والتطبيقات المرتبطة به ، فنجد قطاعات تجارة التجزئة والمطاعم قد تحولت الى المعاملات الإلكترونية والدفع الإلكتروني بأشكاله المختلفة ، كما أنها في الوقت نفسه حدت من استخدامات العملات الورقية التقليدية وفتحت الباب واسعا أمام انتعاش سوق ناشئ جديد وهو سوق العملات الرقمية.

 

فماهي العملات الرقمية وكيف يتم اصدارها؟ وماهو موقف النظام النقدي والمالي العالمي منها ؟وكيف ينظر إليها أفراد المجتمع ؟ هل هي عملات حقيقية ذات قيمة أم مجرد وهم؟

 

تعود بنا هذه الأسئلة إلى الحاجة  للتذكير بماهية العملة في المقام الأول ، فالعملة بأبسط صورها هي تمثيل للقيمة ومقياس لها وليست قيمة بحد ذاتها ، وهي عبارة عن وعد بالسداد ، وكل ما يلقى قبولا عاما كواسطة للتبادل او كوعد للسداد يمكن اعتباره عملة ، سابقا كان الناس يقايضون سلعهم وبضائعهم المختلفة حسب احتياجاتهم مباشرة دون الحاجة الى وجود وسط تبادلي ، ثم قاموا لاحقا باستخدام الاحجار الكريمة والمعادن النفيسة كمقياس لقيمة البضائع وذلك عندما تطورت التجارة ، وعندها اصبحت المسكوكات المعدنية الذهبية والفضية على وجه الخصوص تمثل الوسيط المقبول لسداد قيمة البضائع ، ويمكن اعتبار هذه المسكوكات هي الجيل الثاني للعملة اذا افترضنا بأن نظام المقايضة يمثل الجيل الأول ، ثم ظهرت بعدها العملات الورقية في العصر الحديث كمقياس لقيمة الذهب (representative money) وكوعد من الدولة بالسداد على أن يكون الذهب هو السداد. تطور بعدها هذا الشكل من أشكال العملات والذي يمثل الجيل الثالث ، ليتحول من تمثيل ورقي لقيمة الذهب (representative money) الى مجرد مستند ورقي قانوني تصدره الدولة أو من يمثلها وبدون غطاء مادي ملموس (Fiat money) وعندها اصبحت عملة كل دولة عبارة عن سلعة تستمد قوتها وقيمتها السوقية من قوة الدولة ومكانتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية [4] ، اي انها اصبحت اشبه ما تكون بعلامة تجارية مسجلة مملوكة للدولة (Brand) تستند إلى قوة ومكانة الدولة بالاضافة الى الرصانة والثقة في نظامها المالي.

أما مع التطور التكنولوجي الحاصل فقد برزت أشكال وطرق جديده لتمثيل العملة لتتناسب مع الطرق التجارية والمالية الجديدة والتي تتم عبر الوسائل الالكترونية ، فبرزت وسائل الدفع الالكتروني المختلفة والتي تستعيض عن التبادل المباشر للاوراق والعملات النقدية في المعاملات بوسائل الكترونية مثل بطاقات الائتمان والتحويلات المالية الالكترونية عبر الانترنت وحتى تطبيقات الهاتف النقال. هذه الوسائل هي عبارة عن تمثيل الكتروني للعملات الورقية الموجودة وليست بديلا عنها ، وهي شكل من أشكال العملات الرقمية والتي قد يكون مصطلح "بتكوين - Bitcoin" أول ما يتبادر الى الاذهان عند ذكرها. وعلى الرغم من كونها الأكثر شهرة والاوسع انتشارا ، إلا أنها ليست الوحيدة كما أنها ليست النوع الوحيد من انواع العملات الرقمية ، فبتكوين هي عملة رقمية افتراضية مشفرة (Digital Virtualized Cryptocurrency) تندرج تحت مظلة العملة الرقمية ،  فمصطلح العملة الرقمية يشير إلى الأموال التي يتم تبادلها الكترونيا فقط وتكون متاحة بصيغة رقمية وليس لها بالضرورة تمثيل مادي ملموس. وبغض النظر عن بقية المسميات ، تنقسم العملة الرقمية (Digital Currency) إلى قسمين رئيسين:

 

 

  • العملة الالكترونية (Electronic (E) Currency, E-Money)
  • العملة الافتراضية (Virtual Currency)

 

العملة الالكترونية (E-Money) , هي عبارة عن تمثيل الكتروني لعملة ورقية موجودة ماديا ، اي انها مجرد صيغة اخرى للعملة وجدت لتسهيل عملية التداول الإلكتروني التي تتم من خلال برمجيات معينة مثل نظام الدفع (PayPal) او من خلال الاجهزة الالكترونية وتطبيقاتها مثل الهواتف المحمولة أو حتى من خلال التطبيقات الخاصة بالبنوك وكارتات الائتمان (Credit Cards). اي انها اشبه ما تكون بالمستند أو الصك الذي يستحق الدفع من خلال المصرف في موعد معين. وهذا يعني أن جميع أشكال العملة الالكترونية (E-Money) هي عبارة عن تمثيل الكتروني للعملة الورقية الموجودة (Fiat Money) وليست بديلا عنها. مثال ذلك منظومة الدرهم الالكتروني في دولة الإمارات (e-dirham) والذي تم إطلاق الجيل الثالث منه في عام 2020.

 

أما فيما يخص العملة الافتراضية (Virtual Currency), فهي تشترك مع العملة الالكترونية بكونها ممثلة بشكل رقمي أيضا ، وهذا هو العامل المشترك الوحيد بينهما لتبدأ بعدها سلسلة من الاختلافات والفروق تتمثل في كون العملة الافتراضية تكون صادرة عن مؤسسات خاصة وبتقنيات خاصة من خلال تقنيات سلاسل الكتل والسجلات الموزعة (Blockchain) ويتم إصدارها بشكل غير مركزي مما يجعلها غير خاضعة بالضرورة لكثير من القوانين والانظمة كما انها تكون متوفرة بشكل رقمي فقط وليس لها تمثيل مادي ملموس ، أي أنها في هذه الحالة تمثل جيل جديد من أجيال العملة وتسعى بالتالي لتحل محلها ، كما حلت العملة الورقية محل الذهب.

قد تكون هذه المميزات هي اكثر ما يثير الشكوك والتخوف من موضوع العملة الرقمية والافتراضية منها بالذات عند الكثير من الناس ، كما ويمتد هذا التخوف ليشمل المؤسسات المالية والأنظمة السياسية والحكومات  ، غير أن مجالات التخوف تتفاوت بين الجهات الرسمية والشعبية ،  ففي الوقت الذي تتسائل فيه الجهات الرسمية عن مصير أو دور البنوك المركزية وجدوى وجودها وعن امكانية فقدان الدولة اصلا مهما من أصولها السيادية وهو العملة ، إذا كان بإمكان المؤسسات التجارية اصدار عملاتها الرقمية القابلة للتداول ، فان ما يثير قلق الجمهور هو إذا ما كانت هذه العملات حقيقية ذات قيمة أم مجرد وهم.

ولكن ، أليست العملات التقليدية أو الورقية بحد ذاتها هي مجرد وهم استغلته الانظمة السياسية المختلفة للسيطرة على مقدرات الشعوب كما استغلته الدول القوية للسيطرة على الدول الأقل منها قوة !

هذا التساؤل قد يجيب او يوضح السبب وراء ردة الفعل الشرسة و الممانعة الشديدة التي انتهجها البنك المركزي الأوروبي تجاه نوايا شركة فيسبوك القيام بإصدار عملتها الرقمية ، حيث وجدت فيها تهديدا مباشرا لسيادة دول الاتحاد على عملتها وتقويض للنظام المالي في أوروبا [5] ، وهو نفس السبب الذي يجعل الولايات المتحدة الامريكية تراقب بحذر شديد خطط الصين لإطلاق عملتها الرقمية ، حيث سببت هذه الخطوة على مايبدو ازعاجا للولايات المتحدة ، كون هذه العملة قد صممت بحيث تكون بمعزل عن النظام المالي العالمي الذي يهيمن عليه الدولار ، فعلى الرغم من ان الدولار الامريكي يمثل ما نسبته 60% من احتياطات النقد الأجنبي العالمي في مقابل 2% فقط لصالح العملة الصينية [6] ، إلا أن الخطوة الصينية ولدت مخاوف من أن تكون هذه العملة جزءا من محاولة اكبر لإسقاط الدولار باعتباره عملة الاحتياطات النقدية الرئيسية في العالم خاصة بعد أن لقي "اليوان" الصيني الرقمي الجديد تجاوبا من طرف الكثير من الشركات بما فيها الشركات الأمريكية التي تعمل على الأراضي الصينية ، ومنها مقاهي "ستاربكس" و "ماكدونالدز" . الأمر الذي دفع هذه الدول المهيمنة على اقتصاد العالم الى التوجه الى اصدار عملاتها الرقمية الخاصة بها من أمثال الدولار الرقمي ، واليورو الرقمي والجنيه الاسترليني الرقمي بغرض الإبقاء على هيمنة هذه الدول على الاقتصاد العالمي وكبح جماح الدول الطامحة مثل الصين وكذلك لمنع لتقليل نفوذ شركات التكنولوجيا في مجالات كانت حكرا على الحكومات مثل عملية إصدار العملات والذي اشرنا الى كونها أصبحت عبارة عن سلعة او علامة تجارية خاصة بالدولة ومدعومة بأصولها المختلفة وتخضع لقوانين العرض والطلب وتستمد قوتها وقيمتها السوقية من قوة الدولة ومكانتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بالاضافة الى الثقة في  النظام المالي.

وهذا هو ما يميز العملة القانونية عن العملات الرقمية الافتراضية ، فعلى الرغم من كون كلا العملتين هما بدون قيمة حقيقية إلا أن العملات الورقية القانونية تستمد قوتها وشرعيتها من الدولة التي تقوم بإصدارها على العكس من العملات الرقمية الافتراضية والتي لا تتوفر لها هذه العوامل فهي مجهولة المصدر وبالنتيجة لا يوجد لها ضامن في حال خسارتها لأي سبب من الأسباب الأمر الذي يجعلها في النهاية عبارة عن مجرد أداة للاستثمار والمضاربة الى درجة ان اسعارها اخذت ترتفع وتنخفض بسرعة بحسب تغريدات للرئيس التنفيذي لشركة تسلا ايلون ماسك والذي حققت شركته أرباح قياسية للربع الأول من العام الحالي تحقق ربعها من عمليات بيع عملات بتكوين المشفرة والتي تم شرائها قبل شهرين فقط [7] ، أي أنه حقق في تغريدتين خلال شهرين مايقرب من 109 مليون دولار.

وهذا ما يشير اليه محافظ البنك المركزي الإنجليزي حينما قال بأن العملات المشفرة ليس لها قيمة جوهرية ، وأن على المستثمرين شراء العملات المشفرة فقط إذا كانوا على استعداد لخسارة كل شيء [8] ، وعلى الرغم من هذه الهجمة على هذه العملات إلا أن البنك المركزي الانجليزي قد أشار في وقت سابق إلى اعتزامه إطلاق نسخته من هذه العملات [9] ، ما يشير بوضوح إلى أن المشكلة هي تنظيمية بالدرجة الأساس ومنافسة على السيادة أكثر من كونه محاولة لحماية المواطنين ، فبعد أن اكتشفت السلطات بالفعل أنه من غير الممكن حظر هذه العملات ، يبقى محاولة إجبار الناس على استخدامها بطريقة ليست عملة في الحياة اليومية إلى أن تقوم الدولة بإصدار عملتها المماثلة ، فالعملة هي وسيلة الدولة للسيطرة ، وهذا مايفسر السيطرة الشاملة للغاية التي التي تمارس على قيمة العملات ، حيث تتم مراقبة مقدار الأموال المتداولة وتتخذ تدابير لخفض قيمة العملة أو زيادة تكلفتها حسب الضرورة ، فالفرق بين الدولة والشركات في هذه الحالة هو ان الدولة تصدر قرار لرفع أو خفض قيمة العملة فيما يقوم أصحاب الشركات بنفس الشيء لكن من خلال التغريدات على تويتر ، وفي جميع الاحوال فان المتضرر الرئيسي هم صغار المستثمرين (المواطنين ذوي الدخل المحدود).

وهذا ما اقدمت عليه الحكومة العراقية عندما حاولت إيجاد حل لأزمة السيولة المالية نتيجة لانخفاض أسعار النفط ، فبدلا من أن تلجأ إلى أساليب مبتكرة وقد تكون ذات فائدة أكبر للاقتصاد العراقي الهش ، نجد انها اتجهت الى خفض قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار في الخطوة اثارت ردود افعال كثيرة ، إلا أن وطأتها كانت أقل على ذوي الدخل المحدود (أغلبهم من الموظفين) مما لو قامت الحكومة بتقليص الرواتب أو فرض الضرائب عليها ، على الرغم من كونها تؤدي تقريبا الى نفس النتيجة ان لم تكن أسوأ ، وهذا مايسمى بوهم العملة الذي ينتج من ميل الناس للتفكير في القيمة الاسمية للعملة دون التفكير في القيمة الحقيقية لها ، وهو بالضبط ما يحدث في حالة العملات المشفرة والتي ليس لها قيمة حقيقية في ذاتها عدا عن كونها وسيلة للمضاربة.

واخيرا وفي حالة بلد مثل العراق ، حيث ضعف البنى التحتية الرقمية ، وتفشي الأمية في المجال الرقمي والتكنولوجي (يحتل العراق المركز 143 من أصل 193 دولة في مؤشرات الأمم المتحدة لتنمية الحكومة الالكترونية [10])  هل بالامكان القيام بإصدار عملة رقمية قابلة للتداول في مؤسسات وقطاعات الدولة المختلفة كما يتم حاليا في الكثير من دول العالم؟

 

 

 

المصادر

[1] https://www.bbc.com/arabic/business-55693083

[2] https://www.dw.com/ar/التكنولوجيا-في-زمن-كورونا-وسيلة-لتخفيف-وطأة-الحجر-الصحي/a-52684035

[3] ITU-News-Magazine No.3, 2020

[4] العملة السيادية …. من البترودولار الى البترودينار

[5] [يورونيوز مع أ ف ب  •  آخر تحديث: 28/11/2020]

[6] Bloomberg 2021

[7] https://www.alhurra.com/business/2021/04/28/تقرير-أرباح-تسلا-بيتكوين-تجاوزت-مبيعات-السيارات

[8] https://sa.investing.com/news/cryptocurrency-news/article-2147477

[9]https://www.bankofengland.co.uk/news/2021/april/bank-of-england-statement-on-central-bank-digital-currency

[10] https://publicadministration.un.org/egovkb/en-us/