مفاهيم في الحرب

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2021-07-13 05:15:01

 

م .م نور عبود كنبر 

قسم الدراسات التاريخية والاستراتيجية

(الحرب معلم عنيف للحقيقة)

شارل مورا

    عَرَفَ العالم منذ أكثر من خمسة وعشرين قرناً قادة ومفكرين وفلاسفة قدموا للعالم مفاهيم وآراء مختلفة عن فكرة الحرب وفلسفتها وطرائق ادارتها، ولازالت معظم تلك الكتابات حتى يومنا هذا مجال واسع للبحث والمناقشة العلمية بغية التوصل الى مفهوم دقيق ومتطور يتلائم مع العصر الحالي، وتطورت عبر تلك الحقبة التاريخية مفاهيم ونظريات أهمها :-

  • نظرية الحرب التي جاءت مابين بدايات الثورة الصناعية وحتى ظهور المفكرين (هنري جوميني 1779-1869) و(كارل فون كلاوزفيتز 1780-1831)، حيث نظر جوميني  الى الحرب باعتبارها صورة من صور النشاط البشري على الارض، وهي ليست صورة شاذة من صور هذا النشاط الذي له تاريخه الخاص والمفضل على غيره من صور التاريخ، بل هو جزء مكمل لتاريخ الحضارة وكان رأي جوميني أن العقل البشري يستطيع أن يوُجدْ وأن يقدم صورة منطقية للوسائل التي تمكن من النجاح في الحرب أي أنه اعتبر العلم الوسيلة لتحقيق النجاح في الحرب، أما كلاوزفيتز فينظر الى الحرب بأنها عمل من أعمال العنف وأن العنف هو الوسيلة وفرض الإرادة هي الغاية.
  • تتضمن نظرية كلاوزفيتز عن الحرب عدة مفاهيم وكانت الاولوية لفكرته عن ذلك الثالوث اللافت (Remarkable trinity) وهو الدولة والجيش والشعب حيث استمد كلاوزفيتز هذه الصيغة من إدراكه الواضح ان اسلوب نابليون في خوض الحروب والنتائج الفخمة السياسية المترتبة عليها صار هو النمط السائد، على أن تكون عناصرها الثلاثة متكافئة الأثر، ولابد من الموازنة فيما بينهما لكسب الحرب، وبدون إجتماع هذه العناصر الثلاثة (الدولة- الجيش- الشعب)، لا أمل في نجاح أي عملية عسكرية ويعود ذلك الى المفهوم الأساسي لكلاوزفيتز، ألا وهو أولوية السياسة (The Primacy Of Policy)، فأصل الحرب قصد سياسي، كذلك إعتبر كلاوزفيتز بأنها نتاج اختبار القوة (Trial of Strength)، وصراع الأرادات (Clash of wills).
  • كذلك الماركسية اللينينية لاتنظر الى الحرب بشكلها السياسي المجرد اي كونها مرتبطة بالقرار السياسي للدول فحسب بل تنظر الى الحرب على انها هي المعبرة عن تلك السياسة ومرتبطة بها (إن جوهر الحرب اي الامر الحاسم منها والذي يعبر عن طبيعتها واختلافها النوعي عن حالة المجتمع السليمة تتلخص بأن الحرب هي استمرار لسياسة طبقات ودول واتلافات معينة بوسائل العنف).
  • ونحن نعالج موضوع الحرب من وجهات نظر مختلفة، نجد أنه من الضروري الوقوف على نمط التفكير (الاسرائيلي والصهيوني) في تصديه لهذه الظاهرة، فاسرائيل لها نظريتها حول الحرب لأن الحرب بالنسبة لها تعتبر محور وجودها منطلقة من الفكر الفلسفي للنظرية الصهيونية التي بنيت على الاغتصاب والقهر والسيطرة بالقوة على أرض فلسطين واستعمارها، وآمنت بأن القوة هي اساس هذه النظرية واساس وجودها، وفلسفة الحرب من وجهة النظر الإسرائيلية بنيت على اساس ديني من خلال النصوص التوراتية التي كتبت من قبلهم والتي تركزت على اغتصاب أرض فلسطين وقتل شعبها.
  • اما مفهوم الحرب في اذهان العديد من الرؤساء الأمريكان عبر تأريخها الطويل فينطلق من كون الحرب ضرورة لأمريكا وضرورة لتثبيت مكانة الرئيس بين ساسة بلاده، وإن الحرب هي الوسيلة التي تكشف فيها الأمم موارد قوتها الداخلية والخارجية.
  • أما في مفهوم الاسلام للحرب، فإن الاسلام يقدم لنا موقفاً لحضارة دينية لم تعرف في خبرتها التاريخية تناقضاً بين النظرية الاخلاقية والممارسة السياسية، لهذا نظر الاسلام الى الحرب باعتبارها ظاهرة تنجز وظيفة جهادية لها طبيعة مقدسة، ذلك ان أساس الاستراتيجية بمعناها الشامل في الفكر الاسلامي هو السلم وأقامة علاقات ودية مع الشعوب والأمم الاخرى التي تريد السلام أو تقبل به، إنطلاقاً مما دعى اليه القران الكريم في سورة البقرة، في الآية 208 (يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم كافة)، إن الحرب في الاسلام هي حرب دفاعية حرب غير عدوانية تهدف الى حماية العقيدة ومحاربة الكفر والفساد والضلال، وان الحرب هي جزء من مفهوم وقيمة عليا هي الجهاد في سبيل العقيدة، حيث يأخذ الجهاد صيغ واشكال مختلفة من اجل حماية العقيدة ونشرها.
  • الحرب التقليدية التي تخوضها الجيوش (الحرب النظامية)

إن انواع الحروب التي تشنها جيوش الدول وتتدرب من اجل القتال عليها بقصد تنفيذ غايات واغراض تلك الدول من الحرب هي:

  • الحرب المحدودة. وهي الصراع الدولي الأقل من الحرب العامة وغالباً ما يكون محدوداً جغرافياً ويحدث على اساس محلي أو اقليمي.
  • الحرب العامة. وهو صراع غير محدود بين دولتين عظميين ويتضمن بعض أو جميع حلفائهما، وقد تكون هذه الحرب في بدايتها تقليدية ثم  تتطور الى حرب نووية وتكون مضاعفاتها عالمية النطاق.

جـ. حروب الأمن الداخلي. يكلف بها الجيش عند الحاجة والضرورة ومنها (قمع العصيـان، واعمـال التخريب المحتملة ضد البلد، واسناد السلطة المدنية في دوام سيادة القانون والنظام، كمـا تقوم القوات المسلحـة ايضـاً  بالمعاونة في استمرار الخدمات العامة اثناء الفيضانات والكوارث الطبيعية التي تصيب البلاد).

د. الحرب الباردة. يمكن ان توصف حالة العلاقات الدولية في فتـرة ما بعد الحرب العالميـة الثانية بانهــا فتـرة الحرب الباردة، والحرب الباردة من حيث الاساس هي صراع عقائدي ليستمر مادام هدفه السيطرة مـن قبـل احدى القوى على القوى الاخرى وبعضها لايزال قائماً، لذلك تعـرف الحـرب الباردة بأنهـا (الكفاح العالمـي النطاق المستمر في زمن السلم بين القوى المختلفة الذي يشن بجميع الوسائل ماعدا الصراع الدولي المسلح).

  • ضمن الحرب التقليدية والحروب الاخرى وفي اطارها هناك خطط لإسناد هذه الحروب يمكن ان نطلق عليها اسم الحـرب (الجويـة- البحريـة- الحـرب النفسية والحـرب الاعلاميـة- الحرب الالكترونية... الخ).
  • الحرب الثورية: تتخذ الحرب الثورية اشكالاً مختلفة، وعدد من الاصناف المنفصلة يختلف الواحد عن الآخر على اساس الأصل والاهداف والغايات وعلى أية حال فان اغلب المتغيرات، ماهي الا مسائل تثير الاهتمام الاكاديمي لعلماء السوق (الاستراتيجية)، وذلك لأنها تنتهي فوراً على الاغلب أو تتمتع بإسناد شعبي تتعذر معه المواجهات الفعالة.

 هذه الحرب تمتاز بالتعصب والحماس والأمل القوي وتتمكن جميعها من ضخ قدر عال من الفعالية  والنشاط في نواح معينة من الحياة وتتطلب جميعها ايماناً واخلاص لا حدود له.

كذلك تتميزهذه الحرب بانها تستدعي استحضارات مطولة من قبل زمر منتخبة، ويكون تطبيق وممارسة تلك الاستحضارات  مع شيء من الحذر ولاتتطلب عدد كبير من الناس، لقد كانت الثورة الروسية عام 1917 انقلاباً انفجارياً مفاجئاً وغير مخطط له، وتحركت الجماهيرالشعبية بصورة عفوية في الوقت الذي كان فيه (لينين) في سويسرا، لذا ان الحرب الثورية على هذا الاساس تكون بطبيعتها بحاجة الى وقتاً طويلاً وتتطلب الكثير من الصبر، ومن سمات هذه الحرب انها تسير بصورة اسلوبية، خطوة فخطوة عبر الاهداف المتوسطة حتى تصل الى قلب النظام الموجود، كذلك تتميز بان القيادة فيها تظهر في بداية هذه الحرب أولاً ثم تستند على الجماهير وتقودها.

 ان الحرب الثورية الحديثة تسمى عادة بحرب التحرير الوطنية والحروب الشعبية والتي انتعشت في الدول النامية الافريقية والاسيوية خلال الخمس وعشرين الى الثلاثين عاماً الماضية، ولقد كانت هناك تشكيلة كبيرة من العقائد. واذا وضعنا جانباً مدى تورط الشيوعيين في اي حرب ثورية معينة فانه ينبغي علينا ان نبحث في المميزات الرئيسية لهذا الشكل الجديد من الحرب ومن هم المنظرون الرئيسيون لهذه الحرب فبالنسبة الى (ماركس)، نبحث في العقيدة الرئيسية للصراع، وبالنسبة الى (لينين)، نبحث في تنظيم الحزب، وبالنسبة الى (ماوتسي تونغ)، نبحث في مدى تطبيقه على المجتمع الزراعي، وبالنسبة الى المارشال (لين بياو)، في مدى تطبيقة على الثورات العالمية، وبالنسبة الى (ترونغ تشين)، والجنرال (جياب)، في تطبيق واستخدام تلك الاساليب في فيتنام، وبالنسبة الى (تشي غيفارا)، في قيمتها الروحية بالنسبة للشباب المثقف في الغرب، لقد كان هولاء هم الذين ابتدعوا تلك الحرب وازروها ودعوا لها والممارسين الرئيسين لها.

  • حرب الإرهاب

آن الأوان للاعتراف بان تغيراً على نموذج الحرب التقليدية قد حدث فعلياً، من جيوش ذات قوى متقاربة تخوض معارك في الميدان، الى مواجهة إستراتيجية بين مجموعة محاربين ليسوا جيوشاً تستخدم فيها أنواع من الأسلحة مرتجلة في أغلب الأحيان.

كان النموذج القديم حرباً تخوضها الجيوش النظامية بين الدول المتحاربة، اما النموذج الجديد   فهو حرب إرهاب أي حرب (وسط الناس)، وهي من انماط الحروب غير التقليدية اللامتماثلة او الحروب  غير المتوازنة (Asymmetric Wars Fare)، وظهر هذا المصطلح بعد احداث ايلول 2001.

حرب مكافحة الارهاب وهو وصف تصويري لأوضاع شبيهة بالحرب، وهي الى ذلك إطار مفهومي تعكس حقيقة صعبة مفادها أنه ما من ميدان قتال على الحدود الدولية تشتبك فيه جيوش الدول المتحاربة، فحرب مكافحة الإرهاب هي مختلفة، فهي واقع يكون فيه ميدان القتال كل الناس في كل مكان، في الشوارع والبيوت والحقول.. الخ، فالاشتباكات العسكرية يمكن أن تقع بوجود مدنيين ضد مدنيين ودفاعاً عن مدنيين، فالمدنيون هم الأهداف بقدر ما يشكلون قوة مواجهة.

فالدول القومية لاسيما الدول الغربية وروسيا ودول اخرى كذلك كلها ترسل جيوشها بتشكيلاتها التقليدية للقتال في هكذا ميادين قتال، ثم تفشل بالفعل فقد خاض الحلفاء الغربيون وروسيا في الخمس عشرة سنة الماضية سلسلة اشتباكات عسكرية وفشلت فشلاً ذريعاً بطريقة أو بأخرى في تحقيق أهدافها الموضوعية،                  وهي الانتصار الحاسم الذي يقدم حلاً للمشكلة الرئيسية التي هي عادةً (مشكلة سياسية) وهذا عائد في الأساس الى الخلط الشديد الدائم بين مفهوم نشر القوة (Deployment) ومفهــوم استخـدام القــوة (Employment).

إن لحرب الارهاب سمات رئيسية تميل الى اعتمادها وهي :-

  • ان الغايات التي نقاتل في سبيلها، تتحول من الغايات الصلبة للحرب التقليدية (الصناعية) بين الدول الى غايات أكثر ليونة تتصل بالفرد والمجتمعات التي ليست دولاً.
  • إننا نقاتل وسط الناس، وهي حقيقة يضخمها الإعلام بالنص والصورة بالنظر الى دوره المركزي هذه الايام، فنحن نقاتل في كل غرفة جلوس في العالم وكذلك في شوارع وميادين منطقة الصراع.
  • إن صراعاتنا تميل الى أن تكون غير محدودة بزمن، ذلك اننا نسعى لحالة يتعين علينا فيما بعد تثبيتها الى ان نتفق على نتيجة نهائية محددة، وهو ما قد يستغرق سنوات أو عقود.
  • إننا نقاتل لنحتفظ بالقوة، بدل أن نقاتل باستخدام القوة لبلوغ الهدف بأي ثمن.
  • في كل مرة توجد استخدامات جديدة للأسلحـة القديمـة فالأسلحــة المبنيــة خصيصــاً للاستخدام فــي ساحـة  المعركة ضد الجنود والاسلحة الثقيلة، نكيفها اليوم لصراعاتنا الراهنة لان ادوات الحرب الصناعية كماهي لا تناسب في الغالب الحرب وسط الناس.
  • إن الاطراف المتحاربة في الغالب ليست دولاً، لأننا نميل الى ادارة صراعاتنا ومواجهاتنا اليوم بشكل ما من اشكال التجمع متعدد الجنسيات، سواء أكان هذا حلفاً أم تحالفاً، ضد طرفاً ما أو أكثر ليس بدولة.

تعكس هذه الاتجاهات الستة واقع النوع الجديد لحرب مكافحة الارهاب، فلم تعد الحرب قراراً عسكرياً يولد حدثاً متفرداً ضخماً يفضي الى نتيجة سياسية حاسمة، حيث أن العلاقة بين العوامل السياسية والعسكرية تغيرت هي الأخرى كثيراً، فيما بقيت المستويات الأربعة للحرب كما هي وبقيت القيادة السياسية صاحبة قرار استخدام القوة، وبات عالم المواجهات والصراع الذي هو عالمنا اليوم يخلط باستمرار بين النشاطات السياسية والعسكرية في كل مواجهة وصراع، وبالتالي ولفهم أي صراع حديث يتعين علينا معاينة هذين النوعين من الأنشطة على التوازي، لانهما ينشئان ويتغيران معاً ويؤثر كل منهما على الآخر ويتأثر به، فلا يكون استخدام القوة بذي جدوى الا اذا أُخِذَ من هذه الناحية.

    بعد هذا التعريف والايضاح بالحروب وانواعها، يمكننا القول ان الحرب ظاهرة اجتماعية، وكنشاط سياسي/عسكري لازمت الجنس البشري، منذ بدء الخليقة ولحد الآن، وتاريخ البشرية حافل بحروب عديدة تكاد ان تكون مستمرة، حتى يبدو وكأن حالة الحرب هي السائدة في العالم وان السلم ما هو الا امر طارئ، اتسمت هذه الظاهرة وبشكل دائم باستخدام القوة والعنف وسفك الدماء والتدمير بقصد تحقيق اهداف محددة، وكانت الحرب ولازالت تحضى باهتمام الباحثين والمفكرين وعلى مر التاريخ.

    فهناك من يحاول اعتبارها جزء من الطبيعة البشرية، وهناك من اعتبرها قضية قَدَرِيةَ لابد منها، وهناك من اعتبرها صراع طبقي وهناك من اعتبرها ضرورة لابد منها عندما ترتبط بقضية حق وغيرها من مفاهيم ونظريات عديدة، فالحرب شرٌ في المجال المادي وفي التدمير وسفك الدماء وقهر الشعوب من اجل التسلط والسيطرة الهمجية في اغلب الاحيان ومن اجل التحرر من قيود الظلم والاستبداد في احيان اخرى.                  وبالرغم من كل ما تقدم لماذا تُنْكَر القيم الاخلاقية للحرب؟ لماذا ننكر ان الحرب تزهر انبل الفضائل في النفوس القوية؟ ان الانكار والرفض يعنيان الكذب والمخاطرة بأضعاف الشعوب قبل التمكن من ابعاد الخطر عنها، فالحرب ألم؛ لكنها كونها ألم يجعلها قادرة في المجال الفكري على لعب دور اصطفاء وتقدم، وهكذا نجد ان كل خطوة خطتها البشرية من اجل التقدم العلمي والانساني كان وراءها الحروب والتدمير وسفك الدماء.

ان قبول الحرب او رفضها امر يختص بكل حرب على حده، ولا يمكن تفضيل فكرة الحرب او فكرة السلام بصورة مجردة، فالحرب الارهابية التي تشن اليوم على العراق شعباً وارضاً واستهداف وجوده من قبل عصابات ارهابية مرتزقة، فعندما يتوجه العراقيون شعباً وجيشاً وقوات امنية اخرى لمواجهة هؤلاء الغزاة فألا تعتبر هذه الحرب الدفاعية ضد الغزاة الارهابيون حرب عادلة مشروعة وتستحق ان نقدم فيها التضحيات الغالية من الشهداء والجرحى وكذلك في الخسائر المادية والبنى التحتية من اجل عزة وسلامة الوطن وتاريخه وامجاده وحضارته، ومن المناسب اليوم وغداً دون شك ان نكرر للأمم التي تميل الى النسيان ان ليس هناك من مجد قد تحقق في بلد ما دون تضحيات دفاعاً عن الوطن.