السياسة الجغرافية فيما بعد جائحة كورونا

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2020-10-10 13:34:18

الكاتب:جوزيف ناي

مكان النشر: مركز بلفر للشؤون العلمية والدولية/ جامعة هارفرد

تاريخ النشر: 7 /10/2020

ترجمة: د. طارق محمد ذنون الطائي/ مدرس الاستراتيجية والعلاقات الدولية

        لا يوجد مستقبل واحد لكي يحدث ، وأي جهد لتصور السياسة الجغرافية في أعقاب جائحة كورونا يجب أن يتضمن مجموعة من المستقبلات المحتملة. أقترح خمسة مستقبلات معقولة في عام 2030 ، ولكن من الواضح أنه يمكن تخيل البعض الآخر.

نهاية النظام الليبرالي المعولم

     شيدّ النظام العالمي الذي أنشأته الولايات المتحدة (الولايات المتحدة) بعد الحرب العالمية الثانية إطاراً من المؤسسات التي أدت وبشكل ملحوظ إلى تحرير التجارة والتمويل الدوليين. وحتى قبل جائحة كورونا، كان هذا النظام يواجه تحدياً قبل صعود الصين وصعود الشعبوية في الديمقراطيات الغربية.

     لقد استفادت الصين من النظام، ولكن مع نمو ثقلها الاستراتيجي، فإنها تصر بشكل متزايد على وضع المعايير والقواعد. والولايات المتحدة تقاوم ذلك، والمؤسسات تتلاشى، وتطالب بزيادة السيادة. وتبقى الولايات المتحدة خارج منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ. تساهم جائحة كورونا في احتمال حدوث هذا السيناريو من خلال إضعاف الولايات المتحدة بوصفها مديرة هذا النظام.

التحدي سلطوي: يشبه مرحلة الثلاثينيات من القرن الماضي

       تؤدي البطالة الجماعية، وزيادة عدم المساواة، واضطراب المجتمع من التغيرات الاقتصادية المرتبطة بالجائحة الى ايجاد ظروف مواتية للسياسات الاستبدادية. لا يوجد نقص في الرواد السياسيين المستعدين لاستخدام الشعبوية القومية للوصول إلى السلطة. وتعاظم مذهب العداء للمهاجرين والحمائية. تزداد الرسوم الجمركية والحصص على السلع والأشخاص، ويصبح المهاجرون واللاجئون كبش فداء.

       تسعى الدول الاستبدادية إلى تعزيز مجالات المصلحة الإقليمية، وأنواع التدخل المختلفة تزيد من خطر نشوب الصراع العنيف. لقد كانت بعض هذه الاتجاهات مرئية قبل عام 2020 ، لكن ضعف احتمالات الانتعاش الاقتصادي، بسبب الفشل في التعامل مع جائحة كورونا يزيد من احتمالية حدوث هذا السيناريو.

نظام عالمي تهيمن عليه الصين

       مع انتصار الصين على الجائحة، تغيرت المسافة الاقتصادية بينها وبين القوى الكبرى الأخرى بشكل كبير. ويتجاوز اقتصاد الصين اقتصاد الولايات المتحدة المتراجعة بحلول منتصف عام 2020 ، وتوسع الصين تفوقها على المنافسين المحتملين مثل الهند والبرازيل. وفي زواج المصلحة الدبلوماسي مع روسيا ، أصبحت الصين وبشكل متعاظم الشريك الأول.

        ليس من المستغرب أن تطالب الصين بالاحترام والطاعة بما بنسجم مع قوتها المتزايدة. اذ توظف مبادرة الحزام والطريق (BRI) للتأثير ليس فقط على الدول المجاورة فقط، بل على الشركاء البعيدين مثل أوروبا وأمريكا اللاتينية. وأصبحت الأصوات ضد الصين في المؤسسات الدولية باهظة الثمن، لأنها تُعرض المساعدة أو الاستثمار الصيني للخطر، فضلاً عن إمكانية الوصول إلى أكبر سوق في العالم. ومع ضعف الاقتصادات الغربية مقارنة بالصين بسبب الجائحة، أصبحت الحكومة الصينية والشركات الكبرى قادرة على إعادة تشكيل المؤسسات ووضع المعايير حسب رغبتها.

الاجندة الدولية في مجال البيئة والتغير المناخي

      ليست كل المستقبلات سلبية. بدأ الرأي العام في العديد من الديمقراطيات إعطاء ألاولوية الاسمى لتغير المناخ والحفاظ على البيئة. تقوم بعض الحكومات والشركات بإعادة تنظيم التعامل مع هذه القضايا. وحتى قبل جائحة كورونا، يمكن للمرء أن يتنبأ ألاجندة الدولية في عام 2030 والتي يحددها تركيز البلدان على القضايا الخضراء. من خلال تسليط الضوء على الروابط بين صحة الإنسان وصحة الكوكب ، فإن الجائحة يُسرع من تبني هذه الأجندة.

      على سبيل المثال، ادركت الولايات المتحدة بأن إنفاق(700 ) مليار دولار على الدفاع لم يمنع جائحة كورونا من قتل عدد من الأمريكيين أكثر من الذين ماتوا في جميع حروبها بعد عام 1945. وفي بيئة سياسية محلية متغيرة، يقدم الرئيس الامريكي "خطة مارشال لجائحة كورونا" لتوفير الوصول الفوري إلى اللقاحات للبلدان الفقيرة وتعزيز قدرة أنظمة الرعاية الصحية لديها.

      كانت خطة مارشال لعام 1948 في مصلحة أمريكا الذاتية، وفي الوقت نفسه لصالح الآخرين، وكان لها تأثير عميق على تشكيل السياسة الجغرافية للعقد التالي. عززت مثل هذه القيادة القوة الناعمة للولايات المتحدة. وبحلول عام 2030 ، ستصبح الأجندة الخضراء سياسة محلية جيدة، مع تأثير جيوسياسي مماثل و ذو أهمية.

المزيد من الشيء نفسه

         في عام 2030 ، ستبدو جائحة كورونا مزعجة مثل الإنفلونزا الكبرى التي حدثت في 1918-1920، مع تأثيرات جيوسياسية محدودة مماثلة على المدى الطويل. مع استمرت الظروف السابقة. ولكن ، جنباً إلى جنب مع تنامي القوة الصينية، والشعبوية المحلية والاستقطاب في الغرب، والمزيد من الأنظمة الاستبدادية، فان هنالك درجة معينة من العولمة الاقتصادية والوعي المتزايد بأهمية العولمة البيئية، معززاً باعتراف على مضض بأنه لا يمكن لأي بلد حل مثل هذه المشاكل من خلال التصرف بمفرده.

     تمكنت الولايات المتحدة والصين من التعاون بشأن الأوبئة وتغير المناخ على رغم التنافس على قضايا أخرى مثل قيود الملاحة في بحر الصين الجنوبي أو الشرقي. الصداقة محدودة، لكن التنافس يتم ادارته. بعض المؤسسات تتراجع، والبعض الآخر يتم إصلاحه، والبعض الآخر يتم تشكيله. تظل الولايات المتحدة القوة الأكبر، لكن من دون درجة التأثير التي كانت تتمتع بها في الماضي.

        كل سيناريو من السيناريوهات الأربعة الأولى لها فرصة واحدة من (10) للتقرب من المستقبل في عام 2030. وبعبارة أخرى، فإن الفرص أقل من النصف في أن تأثير جائحة كورونا الحالي سيعيد تشكيل السياسة الجغرافية بعمق بحلول عام 2030.

      هنالك عدة عوامل يمكن أن تُغير هذه الاحتمالات. على سبيل المثال ، فإن التطوير السريع للقاحات الفعالة والموثوق فيها والرخيصة ويتم توزيعها على نطاق واسع دولياً من شأنه أن يعزز احتمال الاستمرارية ويقلل من احتمالية السيناريوهات الاستبدادية أو الصينية.

      إذا ما أدت عملية إعادة انتخاب دونالد ترامب إلى إضعاف تحالفات أمريكا والمؤسسات الدولية، أو إلحاق الضرر بالديمقراطية في الداخل، فإن احتمالية سيناريو الاستمرارية أو السيناريو" الأخضر" ستتراجع. من ناحية أخرى، إذا نجح الاتحاد الأوروبي ، الذي ضعف في البداية بسبب الجائحة ، في تحمل تكاليف استجابة الدول الأعضاء ، فقد يصبح فاعلاً دولياً مهماً قادراً على زيادة احتمالية السيناريو الأخضر.

هنالك تأثيرات أخرى محتملة ، وقد ينتج عن جائحة كورونا تغييرات محلية مهمة تتعلق بعدم المساواة في الرعاية الصحية والتعليم ، فضلاً عن تحفيز إنشاء ترتيبات مؤسسية أفضل للاستعداد للجائحة المستقبلية.

      تقدير التأثير طويل المدى للجائحة الحالية ليس توقعاً دقيقًا بالمستقبل، ولكنه ممارسة في تقييم الاحتمالات وتعديل السياسات الحالية.