مقال مترجم / عقيدة بايدن موجودة بالفعل:عرض عام في المضمون

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2020-09-02 08:53:34

جيمس تروب/مجلة فورين بوليسي/ 20 آب 2020

ترجمة: د. احمد يوسف كيطان/ القسم السياسي

عمل المرشح الرئاسي الديمقراطي جو بايدن ومستشاروه المقربون في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، لكن رؤيتهم الخاصة بالسياسة الخارجية استمدت الهامها من الرئيس الاسبق هاري ترومان.

كتب بايدن مقالاً نُشر في مجلة فورين افيرز في وقت سابق من هذا العام، جاء فيه: "انتصار الديمقراطية والليبرالية على الفاشية والاستبداد خلق العالم الحر، لكن هذا التنافس لا يحدد ماضينا فقط، بل سيحدد مستقبلنا أيضاً"، وجهة النظر هذه في الحقيقة تستحق التوقف عندها، فجو بايدن المولود في العام(1942)، هو ابن تلك الحقبة البطولية؛ إذ ترعرع في خمسينيات القرن الماضي عندما تولت الولايات المتحدة دورها كقوة خيّرة قائدة للغرب في الصراع مع الاتحاد السوفيتي، والذي بدا انهياره في العام(1989) وكأنه قد وضع نهاية للمنافسة الأيديولوجية الكبرى في القرن العشرين، وفي فترة توليه منصب نائب الرئيس، عمل بايدن مع الرئيس باراك أوباما على تفادي الصراع مع الدول الاستبدادية في عصرنا"الصين وروسيا ...الخ".

مرت أربع سنوات فقط على تلك المدة، ومع ذلك فقد كان بايدن يُقرّفي مقاله بفشل ذلك المشروع، فالصراع مع الاستبداد سيحدد المستقبل الأمريكي، لأن تلك الدول قد اختارت كل منها وعلى طريقتها الخاصة سبيل المواجهة مع الغرب، ولأنه -الأمر الأكثرُ إثارةً للصدمة- وفي العام(2016)، انتخبت الولايات المتحدة رئيساً سحق القيم الديمقراطية في الداخل، وأهان الحلفاء الديمقراطيين في الخارج، وأغدق الطغاة بالثناء،بالنتيجة، فإن بايدن وفي حال أصبح رئيساً؛ فسيرث أزمة تشابه في كثير من اوجهها الأيام الأولى للحرب الباردة-أفضل منها بكثير في بعض النواحي، وأسوأ منها في نواحٍ أخرى. وفي الواقع، فإن العديد من مستشاري السياسة الخارجية لبايدن والذين كنت قد تحدثت إليهم في الأسابيع الأخيرة،قد شبّهوا حاله بالرئيس الاسبق هاري ترومان.

تستمر كلمات معينة مثل: "عالم حر"، "ديمقراطية"، "أوروبا"، "قيادة"،بالظهور في وثائق حملة بايدن الانتخابية وفي أعمال المقربين منه،وقد ينظر التقدميون إلى هذه الكلمات على أنها كلمات رجعية تحمل ماركة(علامة)مرشح، صيغت من قبل عالم قد زال، ولاشك أنها كلمات تأتي بطبيعة الحال من بايدن الذي هو شخص وطني عاطفي من المدرسة القديمة، لايزال مساعدوه السابقون في مجال الأمن القومي والمستشارون الحاليون-البعض منهم أصغر من بايدن بنحو جيلين تقريباً-يُشكّلون الاستجابة اللازمة للتغييرات الجذرية سواءً في الخارج أم في الداخل.

وقد بدأتُ انا في كل محادثة مع أعضاء فريق السياسة الخارجية بسؤالهم: كيف يعتقدون أن العالم قد تغير؟ فأجاب (كولين كال) مستشار بايدن للأمن القومي بين عامي(2014-2018)، وحالياً أستاذ في جامعة ستانفورد، بالقول: "الأشياء الثلاثة الأكثر وضوحاً هي:اولاً/ أصبح العالم مترابطاً لدرجة أن أكبر التحديات الوجودية التي نواجهها هي التهديدات العابرة للحدود"- وهو وعي وسعته جائحة كورونا بشكل كبير؛ "ثانياً/ الديمقراطية تراوح مكانها في جميع أنحاء العالم، ثالثاً/ التوزيع المتغير للقوة العالمية- حيث عادت المنافسة بين القوى العظمى".

ويشير كولين كال الى ان هذه التهديدات مترابطة مع بعضها البعض، وان الرئيس أوباما كان قدقلل من لغة الترويج للديمقراطية، ليس فقط لأنه ابتعد عن الغطرسة الأمريكية، بل لأن الجدل حول "التوسع الديمقراطي" برمته ومنذ زمن استراتيجية الرئيس بيل كلينتون كان يدور حول مسألة: كيف والى أي مدى يمكن للولايات المتحدة إبراز قيمها المحلية في الخارج، فكانت الرسالة الضمنية لحرب العراق هي: أقل بكثير مما نعتقد، وبتكلفة أكبر بكثير، ومع ذلك، فإن الجدل نفسه افترض مسبقاً التفوق الأمريكي والديمقراطية الأمريكية.

لقد انهارت تلك الأعمدة، ووفقاً لكولين كال: "لا يتعلق الأمر بجهود ليبرالية لتوسيع الديمقراطية"، "هذا يتعلق بالدفاع عن الحدود الحالية للعالم الحر"، هذه الحدود مهددة من قبل الشعبوية غير الليبرالية داخل الدول الديمقراطية، وفي الخارج من خلال الحروب بالوكالة والفساد المسلح لروسيا،فضلاً عن جهود الصين المتنامية للاستفادة من قوتها الاقتصادية في إعادة كتابة قواعد النظام العالمي،واشار كال الى: "ان علينا حشد الدول الديمقراطية للحفاظ على ما لدينا".

هنا تكمن اوجه التشابه مع العام(1947)؛وهو العام الذي أعلن فيه ترومان أن الولايات المتحدة سوف تساعد الدول التي تحارب الطغيان، لأن الانتهازية السوفيتية كانت تهدد الأمن القومي للولايات المتحدة آنذاك، وبطبيعة الحال، تعد روسيا اليوم قوة متوسطة، اما الصين فإنها وعلى الرغم من أنها أقوى من أي منافس لأمريكا في الماضي، إلّا أنها تمثل في الأساس قوة اقتصادية ودبلوماسية،والأكثر من ذلك، وبذريعة محاربة تهديد وجودي، قدمت الولايات المتحدة العون لدكتاتوريين يمينيين(متطرفين) وأطاحت بقادة منتخبين ديمقراطياً. ليس هذا بالسجل الذي يخطط بايدن لمحاكاته، لكن واشنطن ايضاً عززت شبكات من التحالفات والمؤسسات القائمة على القواعد التي حكمت العالم بدون عدوانية وقسوة -ووفق تصور "القوة المهيمنة الخيّرة"- وقدمت نموذجاً لا يمكن للمستبدين تكراره.

ماذا يعني حشد الديمقراطيات دون خوض حرب باردة جديدة، ودون التظاهر بمنزلة القيادة بلا منازع التي كانت تتمتع بها الولايات المتحدة قبل سبعين عامًا؟أول ايعاز للعمل كما يشير بايدن في مقالته عن الشؤون الخارجية هو: "تجديد الديمقراطية في الداخل"،اي انهاء الاعتداءات على المهاجرين والأقليات والموظفين العموميين وجميع الفئات المستهدفة الأخرى التي طالتها انتهاكات الرئيس دونالد ترامب القومية،وهذه إحدى المشكلات التي لم يواجهها ترومان، ومع ذلك فإن ليبراليي الحرب الباردة في عصره، مثل:هيوبرت همفري، أدركوا أيضاً أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون مدافعاً موثوقاًبه عن القيم الديمقراطية، ما لم تمارسها هي في الداخل بشكل واضح من خلال إصدار تشريعات الحقوق المدنية واستقبال النازحين بصورة كريمة، بالتالي فإن الإصلاح في الداخل يعمل على تمكين الإصلاح في الخارج.

ثم ماذا؟ تعهد بايدن بعقد "قمة من أجل الديمقراطية" في عامه الأول، وهي فكرة ارتبطت في السنوات الأخيرة بصورة رئيسية بالمحافظين الجدد، والذين يميلون إلى رؤية انقسامات العالم من منظور أيديولوجي، وليس من منظور جيوسياسي بحت، ومع ذلك، فإن هذه الفرضية تتجه نحو الوسط. ففي العام الماضي، فيما يبدو الآن انها قشة في مهب الريح، انضم(توني بلينكن) مساعد الأمن القومي لبايدن منذ فترة طويلة ورئيس الشبكة الواسعة من مستشاري السياسة الخارجية للحملة، إلى المحافظ الجديد(روبرت كاغان)في الدعوة إلى اقامة "عصبة" للديمقراطيات وليس فقط "قمة".

يقول بلينكن وهو مفكر حذر ودقيق أنه شعر بسرور عندما تفاجئ باكتشاف مقدار الأرضية المشتركة التي يشاركها مع كاغان الأكثر عقائدية، وبالرغم من ذلك، تعهد بأن ما يدور في ذهنه وذهن بايدن ليس"حملة صليبية"، بل وسيلة للعمل الجماعي، وهي على حد تعبير بلينكن:"قاعدتك في العالم هي الديمقراطيات الأخرى"،لكن ربما ليس كل الديمقراطيات؛ ففي العديد من القضايا، تشعر ديمقراطيات العالم الناشئ كالهند والبرازيل بأنها جزء من المشكلة أكثر من كونها جزء من الحل،اما بالنسبة لرؤية بايدن فهي اكبر بكثير من كونها رؤية أطلسية،فالأعضاء الأساسيون في الكتلة التي يتصورها سيكونون كلاً من: أوروبا بالإضافة إلى كوريا الجنوبية واليابان وأستراليا ونيوزيلندا،وهم "حلفاء امريكا التقليديون".

ان ما يدور في ذهن بايدن ومستشاريه ليس مؤسسة رسمية كحلف الناتو،بل منتدى او نوع موسع من مجموعة السبع(G-7)، حيث يمكن للحلفاء الديمقراطيون في اطارها التوصل إلى حلول مشتركة للمشاكل العابرة للحدود،والتي كان كولين كال يفكر فيها كالأوبئة أو الأمن السيبراني او تغير المناخ الى جانب القضايا المحددة التي يطرحها صعود الدول الاستبدادية، بما في ذلك التدخل في الانتخابات، وتكنولوجيا المراقبة، ودور الصين في تقنية الجيل الخامس(5G)،ولتقديمها بمصطلحات تتضمن أكبر قدر من التنميق، سيعيد بايدن تأسيس "الغرب" لعصر جديد من المشاكل بلا حدود.

يتضمن هذا التوجه الجديد أيضاً ميلاً جيوسياسياً جديداً"محوراً لأوروبا"،فلقد تُرك الأمر لألمانيا وفرنسا وقليلمن الدول الأخرى للوقوف بوجه روسيا وكذلك الصين بشكل متزايد،والتحدث علانية ضد اللاليبرالية داخل أوروبا،ففي مقال نُشر مؤخراً في مجلة واشنطن الشهرية(Washington Monthly Magazine)، اقترحت جولي سميث وهي مسؤولة سابقة أخرى وعضو في الدائرة الداخلية لمستشاري بايدن أن يسافر الرئيس القادم إلى ألمانيا في غضون (100)يوم من توليه منصبه، وان يلقي خطاباً اساسياً: "لإعادة تحديد جدول الأعمال عبر الأطلسي حول مفهوم الدفاع عن القيم الديمقراطية". هذا التوجه كان يقابله توجه سابق للرئيس أوباما يتعلق بخطاب "تجميع الغرب"، وهو الخطاب الذي القاه في القاهرة في حزيران(2009)،والذي دعا فيه اوباما إلى "بداية جديدة" بين الولايات المتحدة والإسلام، إلّا أن مغامرته الشرق اوسطية تلك لم تجلب له سوى الدموع.

على الرغم من أن اوباما أراد التركيز على آسيا، وهي منطقة الدول القومية المستقرة، إلّا أنه لم يتمكن من إخراج أكثر من ساق واحدة من مستنقع الشرق الأوسط، ربما سيكون لبايدن حظاً أوفر في ان يدير ظهره للعالم العربي(لأسباب سنقوم باستكشافها في مقال مستقبلي).

"القيادة" هي بالطبع كلمة مقترنة بـ"العالم الحر"،وقد سَخِرَ المحافظون من عبارة "القيادة من الخلف" والتي يعتقدون أنها تلخص فلسفة أوباما، بالمقابل، يُحجم التقدميون واليساريون الواقعيون عن استحضار أعباء القيادة، والتي يقرنوها بتغيير النظام وحرب الطائرات بدون طيار والغطرسة الإمبراطورية، حيث كتب (أندرو باسيفيتش)الباحث في معهد كوينسي مؤخراً: "لفترة طويلة جداً، سمحت النخب الحاكمة للالتزامات المزعومة للقيادة العالمية بأن تأخذ الاولوية على حساب الاهتمام بالرفاهية العامة للشعب الأمريكي"، ويجادل باسيفيتش بأن: "عصر الهيمنة الأمريكية قد ولى الآن". لكن بايدن لا يؤمن بذلك،ويعتبر ان الولايات المتحدة حقاً هي "الأمة التي لا غنى عنها"، وهي العبارة التي كانت مادلين أولبرايت تُرددها، والتي لطالما سَخِرَمنها بايدن كثيراً، كذلك يميل بايدن إلى جذب المساعدين الذين يفعلون ذلك أيضاً.

وفي مقال نُشر في مجلة ذي اتلانتك(The Atlantic) العام الماضي، جادل (جيك سوليفان) وهو مسؤول سابق آخر للأمن القومي، يشغل الآن منصباً فريداً كمستشار للسياسة الخارجية والداخلية: أنه بفضل قدرتها على التجديد الذاتي وبراغماتي تهاو التزامها بمبدا المصلحة الذاتية المستنيرة، تظل الولايات المتحدة قادرة بشكل فريد على قيادة العالم، وإن كان ذلك في الدور الأكثر تواضعاً للقوة الأولى بين أضدادها، ودعا سوليفان -وبكلمات كفيلة بإثارة حَنَق اليسار- إلى: "استثنائية أمريكية جديدة"، لاستعادة مكانة الأمة على قمة النظام العالمي.

يبدو هذا الكلام وكأنه أحلام يقظة أكثر من كونه خطة عمل؛ فبعد كل ما تقدم، أصدر أوباما نفس الوعد بالتجديد، لكن الشعب الامريكي اختار استبداله بترامب، كما خلص قادة العالم والمواطنون العاديون إلى أن الولايات المتحدة ليست الدولة التي اعتقدوا أنها كذلك، وان جو بايدن ليس فرانكلين دي روزفلت، وهذا ما قالوه بالطبع عن ترومان.