الجائحة والنظام السياسي: يحتاج الأمر الى قدرات دولة

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2020-08-06 09:35:34

 

الكاتب: فرنسيس فوكوياما

مكان النشر: مجلة الشؤون الخارجية(Foreign Affairs)

تاريخ النشر: 1/8/2020

ترجمة: د. طارق محمد ذنون الطائي/ مدرس الاستراتيجية والعلاقات الدولية/ جامعة الموصل

       الأزمات الكبرى لها عواقب وخيمة، والتي عادة ما تكون غير متوقعة.  أدى الكساد الكبير والانعزالية والقومية والفاشية والحرب العالمية الثانية  إلى صياغة الصفقة الجديدة، وصعود الولايات المتحدة كقوة عظمى عالمية، وفي نهاية المطاف الى إنهاء الاستعمار. أنتجت هجمات الحادي عشر من سبتمبر وتدخُلين أمريكيين فاشلين، الى صعود إيران، وظهور أشكال جديدة من "التطرف الإسلامي". أدت الأزمة المالية لعام 2008 إلى زيادة الشعبوية المعادية للمؤسسات، والتي حلت محل القادة في جميع أنحاء العالم. سوف يتتبع المؤرخون المستقبليون آلاثار الكبيرة نسبياً لفايروس كورونا الحالي؛ التحدي الآن هو  اكتشافه في وقت مبكر.

        من الجليّ بمكان لماذا كان أداء بعض الدول أفضل من غيرها في التعامل مع الأزمة حتى الآن؟، وهنالك مبرر للتفكير بأن هذه الاتجاهات ستستمر في المستقبل. إنها ليست مسألة نوع النظام الموجود . لقد حققت بعض الديمقراطيات أداءً جيداً ، لكن أداء البعض الآخر لم يكن كذلك، وينطبق الشيء نفسه على الأنظمة الاستبدادية. لقد كانت العوامل المسؤولة عن الاستجابة الناجحة للجائحة هي الآتي: قدرة الدولة والثقة الاجتماعية والقيادة. والدول التي يتوافر فيها الركائز الثلاثة – اجهزة الدولة المختصة، والحكومة التي يثق بها المواطنون ويستمعون إليها، والقادة الفاعلين- أدت دورها بشكل مثير للإعجاب، مما قلل من الضرر الذي عانوا منه. كان أداء الدول ذات الاختلالات الوظيفية، والاستقطاب المجتمعي، أو القيادة التي تفتقر الى الخبرة سيئاً، وتركت مواطنيها واقتصادياتها مكشوفة وضعيفة.

      عندما تتعرف أكثر عن فايروس كورونا، والمرض الناجم عن الفيروس الجديد، كلما تدرك بأن الأزمة ستطول، وتقاس بالسنوات بدلاً من الربع سنوي. يبدو ان الفيروس أقل فتكاً مما كان يُخشى منه، ولكنه معدي جداً وينتقل غالباً بدون أعراض. الإيبولا مميت للغاية ولكن من الصعوبة بمكان الاصابة به، ويموت الضحايا بسرعة، قبل أن يتمكنوا من نقله. فايروس كورونا هو عكس ذلك، مما يعني أن الناس لا يميلون إلى التعامل معه بجدية كما ينبغي، وهكذا انتشر وسيستمر في الانتشار على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم ، مما تسبب في أعداد كبيرة من الوفيات. لن تكون هناك لحظة معينة ستكون البلدان قادرة على إعلان النصر على المرض؛ بدلاً من ذلك، سوف تُفتح الاقتصادات ببطء وبشكل مبدئي، مع تباطؤ التقدم بسبب موجات العدوى اللاحقة. تبدو آمال الانتعاش على شكل حرف V"" متفائلة للغاية. على الأرجح هو "L "مع مسار طويل ينحني لأعلى أو سلسلة من "Ws". سوف لن يعود الاقتصاد العالمي إلى الحالة السابقة  لفايروس كورونا في الزمن القريب.

       من الناحية الاقتصادية، تُجسد الأزمة التي طال أمدها المزيد من الاخفاقات في الأعمال والدمار للصناعات مثل مراكز التسوق والبيع بالتجزئة والسفر. مستويات تركيز السوق في الاقتصاد الأمريكي ارتفعت بثبات لعقود، وسوف يدفع الوباء هذا الاتجاه أكثر. فقط الشركات الكبيرة ذات الارباح الكبيرة ستكون قادرة على الخروج من العاصفة، مع حصول عمالقة التكنولوجيا على أكبر عدد ممكن منها، مع تزايد أهمية التفاعلات الرقمية.

      يُمكن أن تكون العواقب السياسية ذات أهمية كبيرة. يمكن استدعاء السكان إلى الأفعال البطولية للتضحية بالنفس الجماعية لبعض الوقت، ولكن ليس إلى الأبد. سيؤدي الوباء المستمر المقترن بفقدان الوظائف الكبيرة، والركود طويل الامد، وعبء الديون غير المسبوق حتماً إلى توترات تتحول إلى ردة فعل سياسية عنيفة - ولكن ضد من؟، لم يتضح ذلك بعد.

     سيستمر التوزيع العالمي للقوة في التحول شرقاً، اذ كان ألاداء في شرق آسيا أفضل من حيث إدارة الوضع من أوروبا أو الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الوباء الذي نشأ في الصين وبكين قد تم التكتم علية في البداية وسمح له بالانتشار، فإن الصين ستستفيد من الأزمة، على الأقل نسبياً. وكما حدث، كان أداء الحكومات الأخرى في البداية ضعيفًا وحاولت التستتر عليه أيضاً بشكل أكثر وضوحاً، على الرغم من العواقب الاكثر فتكاً لمواطنيها. وتمكنت بكين على الأقل من استعادة سيطرتها على الوضع، والانتقال إلى التحدي التالي، لتعيد اقتصادها إلى السرعة الفائقة وبشكل مستدام.

      على النقيض من ذلك، أخطأت الولايات المتحدة في الاستجابة بشكل سيئ، وشهدت هيبتها تراجعاً هائلاً. تتمتع الدولة بقدرات هائلة على مستوى الدولة وقد بنت سجلاً مثيراً للإعجاب خلال الأزمات الوبائية السابقة، ولكن مجتمعها الحالي شديد الاستقطاب والقائد غير الكفء، منع الدولة من العمل بشكل فعال. لقد أثار الرئيس الانقسام بدلاً من تعزيز الوحدة، وقام بتسييس توزيع المساعدات، وألقى بالمسؤولية على حكام الولايات لاتخاذ القرارات الرئيسة بينما يُشجع الاحتجاجات ضدهم لحماية الصحة العامة، وهاجم المؤسسات الدولية بدلاً من تحفيزها. يمكن للعالم أن يشاهد جهاز التلفزيون أيضاً، ويقف مذهولاً لمشاهدة  سرعة استجابة الصين، وجعل المقارنة أكثر وضوحاً.

      على مدى السنوات القادمة، يمكن أن يؤدي الوباء إلى التراجع النسبي للولايات المتحدة، التآكل المستمر للنظام الدولي الليبرالي، وعودة الفاشية في جميع أنحاء العالم. يمكن أن يؤدي أيضاً إلى إعادة ولادة الديمقراطية الليبرالية، وهو نظام أربك المشككين لعدة مرات، مما أظهر قوة رائعة من المرونة والتجديد. عناصر الرؤيتين ستظهران في أماكن مختلفة. ولسوء الحظ، ما لم تتغير الاتجاهات الحالية بشكل كبير، فإن الافاق المستقبلية متشائمة.

هل هنالك زيادة للفاشية؟

      من السهولة بمكان تخيل النتائج المتشائمة. اذ تتزايد القومية، والانعزالية، ومشاعر الكراهية ضد الأجانب، والهجمات على النظام العالمي الليبرالي لسنوات، ويتم تسريع هذا الاتجاه من خلال الوباء. لقد استخدمت الحكومات في هنغاريا والفلبين الأزمة لتفويض أنفسهم سلطات الطوارئ، مما أبعدهم عن الديمقراطية. كما اتخذت العديد من البلدان الأخرى، بما في ذلك الصين والسلفادور وأوغندا تدابير مماثلة. وقد ظهرت معوقات الحركة للناس في كل مكان، بما في ذلك في قلب أوروبا؛ بدلاً من التعاون بشكل بنّاء من أجل مصالحهم المشتركة، وتحولت الدول إلى الداخل، وتنافست مع بعضها البعض، وجعلت خصومها كبش فداء سياسي لإخفاقاتها الخاصة.

       سيزيد صعود القومية من احتمال نشوب النزاع دولي، قد يرى القادة بأن القتال مع الأجانب هو إلهاء سياسي داخلي مفيد، أو قد يغريهم ضعف أو انشغال معارضيهم والاستفادة من الوباء لزعزعة الأهداف المفضلة أو خلق حقائق جديدة على الأرض. ومع ذلك ، وبالنظر إلى الاستقرار المستمر لقوة الأسلحة النووية والتحديات المشتركة التي تواجه جميع اللاعبين الرئيسيين، فإن الاضطراب الدولي أقل أحتمالا من الاضطراب المحلي.

       وستتضرر بشدة البلدان الفقيرة ذات المدن المزدحمة وأنظمة الصحة العامة الضعيفة. لا يقتصر الأمر على التباعد الجسدي فحسب، بل حتى النظافة البسيطة مثل غسل اليدين فهو أمر بالغ الصعوبة في البلدان التي لا يتمكن فيها الكثير من المواطنين من الوصول بانتظام الى المياه النظيفة. وكثيراً ما جعلت الحكومات الأمور أسوأ بدلاً من أن تكون أفضل - سواء عن طريق التخطيط، أو بالتحريض على التوترات الطائفية وتقويض التماسك الاجتماعي، أو بسبب عدم الكفاءة. على سبيل المثال، زادت الهند من ضعفها بإعلانها الاغلاق المفاجئ على الصعيد الوطني دون التفكير في العواقب  التي تؤثر في عشرات الملايين من العمال المهاجرين الذين يتجمعون في كل مدينة كبيرة. ذهب الكثير منهم إلى منازلهم الريفية، ونشروا المرض في جميع أنحاء البلاد؛ وبمجرد أن غيرت الحكومة موقفها وبدأت في تقييد الحركة، وجد عدد كبير أنفسهم محاصرين في المدن بدون عمل أو مأوى أو رعاية.

        كان النزوح الناجم عن تغير المناخ بالفعل يمثل أزمة بطيئة الحركة تتشكل في عالم الجنوب. اذ سوف يضاعف الوباء آثاره، مما يجعل أعداداً كبيرة من السكان في البلدان النامية أقرب إلى الكفاف في العيش. وقد حطمت الأزمة آمال مئات الملايين من الناس في الدول الفقيرة الذين كانوا من المستفيدين لمدة عقدين من النمو الاقتصادي المستدام. سيزداد الغضب الشعبي، وتبديد التوقعات المتزايدة للمواطنين هو في النهاية وصفة كلاسيكية للثورة. سيسعى اليائسون إلى الهجرة، وسيستغل القادة الديموغرافيون الوضع للاستيلاء على السلطة، وسيغتنم السياسيون الفاسدون الفرصة لسرقة ما يمكنهم سرقته، وستمارس  العديد من الحكومات القمع أو تنهار. وستُقابل موجة جديدة من محاولات الهجرة من الجنوب العالمي إلى الشمال في هذه الاثناء بتعاطف أقل ومقاومة أكبر هذه المرة ، اذ يمكن اتهام المهاجرين بشكل أكثر وذو مصداقية الآن بانهم يجلبون الأمراض والفوضى.

        وأخيراً ، لا يمكن التنبؤ بمظاهر ما يسمى البجعات السوداء، ولكن من المحتمل بشكل متزايد أن ينظر المرء إلى أبعد من ذلك. لقد عززت الأوبئة السابقة رؤى نهاية العالم، وطوائفه، ودياناته الجديدة التي نشأت حول القلق الشديد الناجم عن المصاعب طويلة الامد. في الواقع، يمكن النظر إلى الفاشية على أنها واحدة من هذه الثقافة، والناشئة من العنف والتشريد الناتج عن الحرب العالمية الأولى وما بعدها. اعتادت نظريات المؤامرة على الازدهار في أماكن مثل الشرق الأوسط ، حيث كان الناس العاديون محرومين من القوة وشعروا أنهم يفتقرون إلى السلطة. في الوقت الحاضر، انتشروا على نطاق واسع في جميع أنحاء البلدان الغنية أيضاً، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى البيئة الاعلامية التي وفرّها الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ومن المرجح أن توفر المعاناة المستمرة مادة غنية لاستغلال الديماغوجيين الشعبويين.

أو هل هي الديمقراطية المرنة؟

       ومع ذلك ، وكما ان الكساد الكبير لم ينتج الفاشية فحسب، بل أعاد تنشيط الديمقراطية الليبرالية أيضاً ، فانه قد ينتج عن الوباء بعض النتائج السياسية الإيجابية أيضاً. وغالباً ما كانت هذه الصدمة الخارجية الضخمة في كثير من الأحيان لكسر الأنظمة السياسية المتصلبة والخروج من ركودها وتوفير الظروف المناسبة للإصلاح الهيكلي الذي طال انتظاره، ومن المرجح أن يستمر هذا النمط مرة أخرى، على الأقل في بعض الأماكن.

        الحقائق العملية للتعامل مع الوباء تميل لصالح المهنية والخبرة؛ الا ان الغوغائية وعدم الكفاءة تجعل الامر عرضة للخطر. وهذا من شأنه أن يوجد في نهاية المطاف الخيار الاكثر فاعلية، فعلى سبيل المثال ، يكافئ السياسيين والحكومات التي تحقق الاداء الافضل، ويُعاقب أولئك الذين يقومون بذلك بشكل غير فاعل. حاول البرازيلي جاير بولسونارو، الذي قام بتفريغ المؤسسات الديمقراطية في بلاده بشكل مطرد في السنوات الأخيرة، القيام بخدعة في سلوكة خلال الأزمة وهو الآن يتخبط ويرأس كارثة صحية. حاول الروسي فلاديمير بوتين التقليل من أهمية الوباء في البداية، ثم ادعى أن روسيا تحت السيطرة، وسيتعين عليه تغيير لهجته مرة أخرى مع انتشار فايروس كورونا في جميع أنحاء البلاد. كانت شرعية بوتين بدأت بالضعف بالفعل قبل الأزمة، وربما تتسارع هذه العملية.

      لقد ركز الوباء ضوءاً ساطعاً على المؤسسات القائمة في كل مكان، وكشف النقاب عن نقاط ضعفها ووهنها. وقد عمقت الأزمة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، سواء بين الشعوب أو الدول، وسوف تزداد حدة خلال الركود الاقتصادي طويل الأمد. ولكن إلى جانب المشاكل، كشفت الأزمة أيضاً عن قدرة الحكومة على توفير الحلول، وتركيز الاعتماد على الموارد الجماعية في هذه العملية. ويمكن لـ "العمل معاً" تعزيز التضامن الاجتماعي ودفع تطوير المزيد من الحماية الاجتماعية السخية وتمهيد الطريق، تماماً مثلما حفزت المعانات الوطنية المشتركة في الحرب العالمية الأولى والكساد نمو رفاهية الدول في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين.

       هذا ربما يضع حداً للاشكال المتطرفة من النيوليبرالية. اذ وفرّت إيديولوجية السوق الحرة التي ابتكرها الاقتصاديون من جامعة شيكاغو مثل غاري بيكر، ميلتون فريدمان، وجورج ستيغلر خلال الثمانينيات مدرسة شيكاغو التبرير الفكري لسياسات الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر، الذين اعتبروا بأن الحكومة الكبيرة غير الموثوق بها تشكل عقبة أمام النمو الاقتصادي والتقدم البشري. في ذلك الوقت ، كانت هناك أسباب جيدة لخفض العديد من أشكال التنظيم والمُلكية الحكومية. لكن المجادلات في المذهب الليبرالي، رسخت العداء لعمل الدولة في جيل من المثقفين المحافظين، سيما في الولايات المتحدة.

       بالنظر إلى أهمية الإجراءات الحازمة التي تتخذها الدولة للحد من الوباء، سيكون من الصعب القول، كما ذكر ريغان في أول خطاب تنصيب له، بأن "الحكومة ليست هي الحل لمشكلتنا. الحكومة هي المشكلة ". كما لن يتمكن أي شخص من تقديم رؤية معقولة تتمثل بانه يمكن للقطاع الخاص والعمل الخيري أن يحل محل الدولة المختصة خلال حالة الطوارئ الوطنية. في نيسان، أعلن جاك دورسي على تويتر، بأنه سيساهم بمليار دولار في الإغاثة المخصصة لفايروس كورونا، وهو عمل خيري استثنائي. في الشهر نفسه، خصص الكونجرس الأمريكي (2،3) تريليون دولار لدعم الشركات والأفراد المتضررين من الوباء. قد تستمر مشاعر الكراهية بين المحتجين المتضررين من الاغلاق، لكن استطلاعات الرأي تشير إلى أن الغالبية العظمى من الأمريكيين يثقون بنصيحة الخبراء الطبيين الحكوميين في التعامل مع الأزمة. وهذا يمكن أن يزيد الدعم للتدخلات الحكومية لمعالجة المشاكل الاجتماعية الرئيسة الأخرى.

       وقد تؤدي الأزمة في نهاية المطاف إلى تجديد التعاون الدولي. وبينما يؤدي القادة الوطنيون "لعبة اللوم" ، يقوم العلماء  والمسؤولين في الصحة العامة حول العالم بتعميق تواصلهم وعلاقاتهم. إذا أدى انهيار التعاون الدولي إلى كارثة وحُكم عليه بالفشل، والحقبة التي تلي ذلك يمكن أن تشهد التزاماً متجدداً بالعمل على نحو متعدد الأطراف لتعزيز المصالح المشتركة.

لا تبالغوا في طموحاتكم

      لقد جسد الوباء اختباراً للضغط السياسي العالمي. سوف تتخطى الدول ذات القدرة والحكومات الشرعية الازمة بشكل جيد نسبياً، وقد تتبنى إصلاحات تجعلها أقوى وأكثر مرونة، من ثم تسهيل أدائها المستقبلي المتفوق. ستكون البلدان ذات القدرة الضعيفة أو القيادة الضعيفة في وضع صعب، وستكون في حالة من الركود، إن لم يعمها الفقر وعدم الاستقرار. المشكلة هي أن المجموعة الثانية تتخطى من حيث العدد المجموعة الأولى بشكل كبير.

      لسوء الحظ، كان اختبار الإجهاد صعباً جداً لدرجة أنه من المحتمل أن يتخطاه عدد قليل جدا من الدول. وللتعامل مع المراحل الأولية من الأزمة  بنجاح، فان الدول ليست بحاجة الى القدرة والموارد الكافية فحسب، بل أيضاً إلى قدر كبير من التوافق الاجتماعي والقادة الأكفاء الموثوق فيهم. تمت تلبية هذه الحاجة من قبل كوريا الجنوبية، التي فوضت إدارة الوباء إلى البيروقراطية الصحية المهنية، وأنجيلا ميركل في ألمانيا. ومما هو أكثر شيوعاً بكثير الحكومات التي فشلت بطريقة أو بأخرى.

      وبما أن الأزمة سوف يكون من الصعوبة بمكان ادارتها، فمن المرجح أن تستمر هذه الاتجاهات الوطنية، مما يجعل التفاؤل الواسع صعباً. سبب آخر للتشاؤم هو أن السيناريوهات الإيجابية تفترض نوعاً من الخطاب العام العقلاني والتعلم الاجتماعي. ومع ذلك، فإن العلاقة بين الخبرة التكنوقراطية والسياسة العامة أضعف اليوم مما كانت عليه في الماضي، سيما عندما كانت النخب تمتلك المزيد من السلطة. إن التحول الديمقراطي للسلطة التي حفزتها الثورة الرقمية ساهمت في الهرمية المعرفية جنبا إلى جنب مع التسلسلات الهرمية الأخرى، وصنع القرار السياسي يقاد من قبل المفاهيم العسكرية. لا تكاد تكون هذه بيئة مثالية للفحص الذاتي البنّاء والجماعي، وقد تظل بعض الأنظمة السياسية غير عقلانية لمدة أطول مما يمكن أن تكون قابلة للانحلال.

     المتغير الاكبر هو الولايات المتحدة. كان من سوء الحظ الفريد من نوعة للبلاد أن يكون هناك زعيم غير كفء وأكثر انقساماً في تاريخها الحديث على رأس السلطة عندما ظهرت الأزمة، ولم يتغير أسلوب حُكمه رغم الضغط. وبعد أن أمضى فترة ولايته في حالة حرب مع الدولة التي يرأسها، لم يتمكن من نشر الجيش بشكل فعال عندما تطلب الوضع ذلك. واذا ما حكما على الثروة السياسية فانها تتمثل في المواجهة والحقد بدلاً من الوحدة الوطنية، فقد استخدم الأزمة في اختيار الخلافات وزيادة الانقسامات المجتمعية. إن ضعف الأداء الأمريكي خلال الوباء له عدة أسباب، ولكن الأكثر أهمية كان: القائد الوطني فشل في القيادة.

      إذا تم منح الرئيس ولاية ثانية في تشرين الثاني، فسوف تنخفض فرص عودة الديمقراطية أو النظام الدولي الليبرالي. ومهما كانت نتيجة الانتخابات، من المرجح أن يبقى الاستقطاب عميق في الولايات المتحدة. سيكون من الصعب إجراء انتخابات خلال الجائحة، وستكون هناك حوافز للخاسرين الناقمين للطعن في شرعيتها. حتى لو استولى الديمقراطيون على البيت الأبيض وكلا المجلسين في الكونغرس، فإنهم سيرثون دولة جاثمة على ركبتيها. مطالبات العمل ستُلبي الديون والمقاومة الشديدة من المعارضة. ستكون المؤسسات الوطنية والدولية ضعيفة وتتململ بعد سنوات من سوء المعاملة، وسوف تستغرق سنوات لإعادة بنائها، ان لم تكن ممكنة على الإطلاق.

      ومع مرور أكثر مراحل الأزمة إلحاحاً ومأساة، يتجه العالم إلى مسار كئيب يشق طريقة بصعوبة. سيخرج منه في نهاية المطاف، وبعض المناطق ستكون أسرع من المناطق الاخرى. الاضطرابات العالمية العنيفة غير محتملة، وقد أثبتت الديمقراطية والرأسمالية والولايات المتحدة قدرتها على التحول والتكيف في ما مضى من الزمن. لكنهم سيحتاجون إلى القيام بمعجزة واثبات ذلك مرة أخرى.