بناء السلام بين النظرية والتطبيق

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2019-10-08 17:22:26

أن مفاهيم "السلام" و" بناء السلام" كغيرها من المفاهيم في أي مجال تتعدد وتختلف تعاريفها بتعدد الباحثين واختلاف وجهة نظرهم ومُتبنياتهم العقائدية والفكرية.

وهُناك من يقول بنظرية "السلام الدائم" والتي يدعوا لها المثاليون، ولكنها نظرية لم تُثبت نجاعتها لأنها تقتضي "العدل التام" وهذا أمر صعب المنال إن لم يكن من قبيل المُستحيل .

وقد كتب الفيلسوف الألماني المثالي كانت(1724_  1804) رسالة أسماها "نحو السلام الدائم" يقدم فيها رؤيته الفلسفية لاقامة مجتمع مدني أساسه العدل والحرية ،و رغم  أن كانت يُعد من أوائل دُعاة السلام الدائم بين الدول، إلًا أنه في الوقت نفسه يعتقد بأن "حالة السلام بين أُناس يعيشون جنباً إلى جنب ليست حالة فطرية: إذ أن الحالة الفطرية أدنى إلى أن تكون حالة حرب. وهي وإن لم تكن حرباً مُعلنة، إلَا أنها على الأقل مُنطوية على تهديد دائم بالعدوان. وإذن فينبغي إقرار حالة السلام" .

في الجهة المُقابلة هُناك من يقول بنظرية "السلام المُستحيل"  التي أشار لها (فرنر) في كتابه "الحرب العالمية الثالثة"، كما أشار لمفاهيم أخرى مثل "السلام الايجابي" و "السلام السلبي" .

ويقصد بالسلام المُستحيل هو ايمانه بأن الأصل في الحياة هو الصراع من أجل البقاء، لذا ستكون الحرب أولوية لحسم هذا الصراع الذي سينتصر فيه القوي.

أما "السلام الايجابي" فهو حالة مُتمناة يحلم بها الفلاسفة المثاليون، ولا وجود لها في خضم الصراعات التي تفرضها طبيعة الواقع التي تدفع باتجاه التنافس.

فيما نجد "السلام السلبي" واضحاً وجلياً في سياسة "الحرب الباردة" بين أمريكا والاتحاد السوفيتي سابقاً (روسيا) وسباق التسلح والحرب بالنيابة، أي البحث عن مناطق للصراع لاستعراض القوى.

يُمكن القول أن تحقيق السلم بشكل دائم أمر قابل للشك، "إذ ليس السلم هو مُطلق اختفاء العُنف، وإنما هو أحد الأسباب الموجبة لذلك" .

اذن السلام بأبسط صوره هو  غياب الحرب والنزاعات والصراعات العنيفة، سواء كانت تلك الصراعات داخلية أم خارجية.

وقد تطور مفهوم السلام كغيره من المفاهيم التي تشهد تطوراً مستمراً، فلم يعد السلام يشمل غياب الحرب والنزاعات بين الدول أو بين الأفراد داخل الدولة فقط، بل أخذت تدخل في نطاقه  جوانب مختلفة تشمل علاقة الإنسان بنفسه وعلاقته مع غيره، فيرى الباحثون في مجال"السلام" و "عمليات بناء السلام" أن السلام الداخلي للإنسان ينعكس بشكل كبير على السلام بشكل عام وعلى إمكانية بناءه، كذلك  أخذ يشمل التركيز على دعم حقوق الإنسان ونبذ العنف الموجه ضد فئات مختلفة كالأطفال والنساء وأصحاب الرأي وممارسات التمييز والعنصرية على إختلاف دوافعها.

يستعمل بعض الباحثين مصطلح "بناء السلام" في وصف الأنشطة التي تعقب الحروب، والبعض الآخر يستعمل هذا التعبير لتعريف طريق جديد لمدخل العمل التنموي مع التأكيد على السلام، وهناك آخرون ما يزالون يرون بناء السلام عملية ذات طابع نفسي وعلاقاتي أو يستعملون هذا المفهوم بشكل متبادل مع فكرة تحويل مسار الصراع، وقد حدث تطور في مفهوم بناء السلام بوصفه استجابة لأقصى حالات العنف التي شهدها العالم وأشدها انتشارا مثل الانتشار الواسع المتنامي للفقر، وزيادة معدل الجريمة، والعنصرية، والقمع، والعنف ضد المرأة والحروب وهكذا يعد أي جواب على سؤال "مالذي يتم القيام به حيال هذه المشكلات؟" جزءا من عملية بناء السلام .

 

لا يرتبط مفهوم بناء السلام فقط بالأمن بمفهومه التقليدي الذي يعني حماية الدولة لأراضيها ومصالحها الوطنية، بل يسعى الى الأمن الانساني الذي يهتم بتقليل تهديدات المرض والجريمة والعوامل الأخرى التي تقلل من وجود الحياة.

والحكومات لها دور فعال وأساسي في هذا المجال فالعدد المتعاقب من الحكومات الفاشلة أو المختلة وظيفياً تشير الى عجز بعض الدول عن توفير بيئة صحية يمكن للأفراد من خلالها توفير احتياجاتهم الأساسية، كذلك تحرم المجتمعات التي تدعم التفاوت وعدم التكافؤ الاجتماعي والاقتصادي بعض الجماعات من المشاركة في عملية صنع القرار ومن المساهمة الفعالة في الحياة العامة وعندما تتصف المؤسسات بالعنف فهي تنقل عدوى العنف الى المجتمعات كلها بكل ثقافتها مما يعيق عملية بناء السلام.

وقد يُثار هنا تساؤل هو هل أن مفهوم "بناء السلام" قابل للتطبيق أم أنه محض تنظيرٍ وخيال؟

لقد تعلمنا من العلوم السياسية أن نتعامل مع الواقع ومعطياته لذلك فأن عملية بناء السلام ترتبط بطبيعة المجتمعات وطبيعة الأزمات أو النزاعات التي مرت بها، وهي بالتالي تختلف من مجتمع لآخر ولكن ما تشترك به جميع المجتمعات هي رغبتها في تحقيق السلام، فهو حالة تفرضها الحاجات البشرية لأن وجود السلام في الدولة يعني وجود شعور بالطمأنينة لدى مواطنيَ تلك الدولة، حيث سينتج عن السلام  اقتصاد مُستقر يؤدي بالنتيجة الى استقرار أحوال المعيشية للأفراد وتوفير فرص التعليم الجيد والرعاية الصحية وكل ما من شأنه حماية كرامة الإنسان مما يحقق الاستقرار الاجتماعي، أما الإنسان الذي يعيش في ظل مجتمع منغمس بالصراعات والعنف سيسلب كل هذه الحقوق، لذلك جميعنا نتفق أن السلام حاجة انسانية تلبي رغبات الانسان مهما كان ميله الى للعنف.

بناء السلام يحتاج الى تقويم واقعي للتحديات المعقدة في السياق الآني، كذلك يعمل بناة السلام الآني على العمل لايجاد رؤية طويلة المدى للسلام الدائم، فالسلام لا يحدث هكذا فجأة، بل يتحقق عندما يلتزم الأفراد وصُنَاع القرار والمؤسسات والجهات المختصة باتخاذ قرارات تحمي هذه العملية على المدى البعيد، والعمل على فهم الواقع وطبيعة المشاكل المُعيقة لتحقيقه.

لا بُدَ من الاشارة الى ملاحظة مهمة هي أن عملية بناء السلام لا تعني القضاء على العنف والصراعات بشكل مطلق بل هي سعي الى زيادة عدد الخيارات السليمة من قبل الدولة ومؤسساتها ومن قبل المجتع الدولي ومنظاماته ومساعدة الدول والأفراد على اختيار اقل الخيارات عنفاً. 

"إن العنف الذي يحدث في العديد من دول العالم وعلى مر العصور من صراعات وحروب ما هو إلَا محاولة لإقامة العدالة أو الغائها "، فربما ينضم الطفل الى الجماعات المتمردة كمحاولة لإيجاد الانتماء والهوية أو حتى الغذاء، أو ربما يستعمل الزعيم المعارض العنف لكسب مكانة أعلى أو ثروة أكثر، لذلك يتطلب بناء السلام تحديد حقيقة المتطلبات لإيجاد بدائل وطرق سلمية لتلبية تلك الاحتياجات وهذا يحتاج إلى جهد كبير لفهم البيئة المحلية وطبيعة الصراع وأطرافه والعوامل المؤثرة فيه مما يجعل عملية تحقيق السلام عملية ممكنة أو قابلة للتحقيق.

 

 

 

هيام علي عبد الهادي