الاستقرار والعقد الاجتماعي والأمن الوطني في العراق

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2018-07-18 19:47:36

علي عبد الهادي المعموري

قامت الدولة منذ نشأتها الأولى على فكر الأمن، الدولة المؤسسة على العقد الاجتماعي الذي يجلبها لأداء هذه الوظيفة المهمة بالدرجة الأولى، أمن المتعاقدين على انشاء الدولة، أمن عسكري خالص في فكرته الجنينية.

ثم توسع مفهوم الأمن العسكري المجرد وصولا الى مفهومه الحاضر الذي صار يتأطر بمفهوم (الأمن الوطني)، المفهوم الذي شابه التعقيد الملازم للمفاهيم في الدراسات الاجتماعية عادة، ولكن الكثير من تلك المفاهيم التي تناولت جوهر الأمن الوطني نظرت إليه بقاسم مشترك مفاده أن الأمن يعني التحرر من القلق، وهو بهذا التحديد يتميز بوجود ناحية نفسية تتأثر بمتغيرات داخلية وخارجية تنعكس على الاحساس بالأمن، ولكن الأمن لا يبنى على مضمون سلبي فقط ينصرف إلى انتفاء التهديدات وحسب، وإنما ينصرف أيضاً إلى ترتيب تلك الظروف التي تؤمن المستقبل.

بهذا الترتيب، فإن الأمن ما عاد يرتبط بجانب دون سواه، وأصبح ((قضية شاملة متعددة الأبعاد تشمل الكيان الاجتماعي بجوانبه وعلاقاته المختلفة)) لهذا تم تعريف الأمن الوطني بكونه: ((قدرة الدولة أو الأمة عبر وسائلها المتاحة على ضمان قيمها ومصالحها الأساس من مختلف أشكال التهديد تحريراً لحركتها السياسية الداخلية والخارجية. وبهذا يعد حلقة الوصل بين الأمن الداخلي والأمن الدولي))([1]).

إن الحديث عن (قدرة الدولة أو الأمة) يفترض أن هذه القدرة تالية لقيام الدولة واستقرار وجودها ضمن الأمة التي انتجتها، ضمن عقدها الاجتماعي، وهنا، عند هذا المفصل تحديدا، نحاول هنا أن نقف على دور الاستقرار في بلورة هوية الأمة وعقدها الاجتماعي، بما يعزز وجود الدولة، وقيامها بواجبها الأهم: تحقيق الأمن الوطني.

يجد الناظر إلى تواريخ الأمم أن معوقات قيام الدولة واستقرارها تختلف من مجتمع الى آخر، يعاني البعض من نقص السكان رغم توفر الموارد، والبعض الآخر يقاسي مشاكل جغرافية تعيق قدرة النظام السياسي على إدارة شؤون الدولة وتوفير الاستقرار، مثل النقص في الأراضي السهلية، أو شحة الموارد، بينما تعاني دول أخرى من سعة أراضيها وشحة مواردها البشرية.

وإذا نظرنا الى حال العراق، فسنجد أنه لا يعاني فعليا من نقص في تلك المقومات، إذ يمتلك موارد بشرية وطبيعية وفيرة، مع تنوع كبير في البيئة الجغرافية وفّرت له اراضي سهلية وجبلية وصحراوية، تنوع يفترض أن يكون عاملا مهما في تطور الدولة وابداعات ابنائها، فما هي المشكلة التي لا تزال تعيق تبلور عقده الاجتماعي ورسوخ دولته وهويته الوطنية وصولا الى تحقيق أمنه الوطني؟

الحقيقة أن الناظر الى تاريخ الدولة العراقية الحديثة يجد أن العراق لم يشهد حقبة استقرار تتجاوز العقد ونصف العقد أبدا، اضطرابات ممتدة، خلافات سياسية عميقة، جدل بشأن الحكم والحاكم والمجتمع، انتقال عنيف للسلطة بشكل مستمر، حروب داخلية وخارجية، مشاكل إقليمية ودولية، حتى بدا أن حالة الاستقرار هي الاستثناء، وأن الوضع الطبيعي للبلد هو الاضطراب.

ومن البديهي أن عدم الاستقرار يشكل عائقا أمام الثقة الجمعية بالدولة، شك بقدرتها على أداء واجبها، ويقود الى انبثاق قوى ما قبل الدولة ــ الدين، المذهب، العشيرة... الخ ــ ومن جانب ثاني يشكل عامل تأزيم جمعي، ينعكس على سلوك المجتمع الفردي والشخصي، يحفز نمو توتر دائم، وميل الى العنف والصدام وعدم الانضباط ضمن إطار قانون عام يسري على الجميع، خصوصا إذا حصل خلل في تطبيق المساواة أمام القانون.

وبحسب مبدأ التراكم، فإن استمرار حالة عدم الاستقرار، وما تجلبه من مشاكل اجتماعية اشرنا لها، مشاكل ستتزايد وتتفاقم بمرور الوقت، تتراكم على بعضها، وتزداد تعقيدا وتشابكا وتداخلا كلما اجتازها الزمن متقدما دون علاج، بما يقود الى تعميق الانقسام الاجتماعي، ويخلق حالة من ديمومة العجز عن بلورة وترسيخ العقد الاجتماعي المؤسس، ويوهن الهوية الوطنية، لأن الاستقرار هو الحاضن الرئيس الذي يدعم هذه الأسس التي تقوم عليها الدولة.

إن دالة قوة الدولة هي الاستقرار، بما يتضمنه من سريان حياة المواطنين دون معوقات، دون مبالغة في الإجراءات الأمنية المنظورة، ولو لاحظنا الإيجابيات التي ترتبت على قرار رفع حضر التجول في بغداد الذي اصدرته الحكومة العراقية في شباط 2015، بعد عشر سنوات سبقته شهدت خنق حرية الحركة في الليل، فسنجد تنامي مشاعر عامة بوجود أمن نسبي قاد بدوره الى هدوء ايجابي حتى على المستوى السياسي.

سنلاحظ وجود نشاط اقتصادي متسارع بالنمو، وخلال 3 سنوات، تم بناء عدد كبير من المولات والمطاعم والمناطق الترفيهية، وبالرغم من أن ذلك لا يشكل دالة اقتصادية ايجابية لكنه يعني وجود مناخ من الأمن النسبي قادر على احتواء فعاليات اقتصادية تعتمد على راحة الناس واطمئنانهم بالدرجة الأولى، الأمر الذي ترافق مع تسويات سياسية كبيرة، ولا ريب أن لحالة الاستقرار النسبي دور في قيام تلك التسويات، لأن كل الاطراف ستستفيد من حالة الاستقرار سواء على المستوى السياسي أم الاقتصادي.

بتلخيص شديد، يحتاج العراق الى استقرار لكي تنمو الهوية الوطنية وتترسخ صورة الدولة المؤسسة على عقدها الاجتماعي، مناخ مستقر تستدام فيه التسويات المبرمة بين القوى الاجتماعية، وتترسخ ضمنه قدرات النظام السياسي وتمكنه من احتكار الاكراه الشرعي، استقرار يمتد لخمسين عام على الأقل، تتفق فيه القوى السياسية على استدامة الاستقرار لترسيخ وجود الدولة والنظام السياسي، وليس ذلك بمستحيل لو فكر الجميع بأن نمو الدولة وترسخ مصالح الوطن يصب في مصلحة تلك القوى بذات الوقت.

 


([1]) نقلا عن: د. مازن الرمضاني، الأمن القومي العربي في عالم متغير، في الأمن القومي والحرب (بغداد: آفاق عربية للصحافة والنشر،1985)، ص49.