سياسة الامن القومي الياباني ومفهوم السلم الاستباقي “proactive pacifism”

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2017-10-20 19:25:07

سياسة الامن القومي الياباني ومفهوم السلم الاستباقي “proactive pacifism”

فيصل عبد اللطيف ياسين

طالب دراسات عليا/ جامعة فلاندرز

ظلت الكثير من الدراسات والأبحاث الصادرة باللغة العربية حتى هذه اللحظة غير مواكبة لديناميات التغيير منطقة اسيا الباسفيك واثر التحولات الجيبوليتيكية الكبرى على السلوك السياسي الخارجي للفواعل الاقليمية في المنطقة ومنها اليابان على وجه التحديد, حيث لاتزال الدراسات المعنية بالسلوك الخارجي الياباني اسيرة للنمطية التي تفترض بثبات الإستراتيجية اليابانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على نمط ومنهج محدد قوامه تعظيم القوة الاقتصادية على حساب اهمال وتقزيم القدرات العسكرية, غير مدركة حجم التغيير الذي طرأ على السياسة الخارجية اليابانية, منذ تسنم شينزو اَبي السلطة في نهاية العام 2012 على اقل تقدير.

سبع عقود من التحولات في البيئة الاقليمية لليابان و التغيرات في هيكلية توزيع القوة داخل النظام العالمي كانت كفيلة بتحويل السياسة الامنية الخارجية لليابان من الطابع السلمي pacifist القائم على ردود الافعال والاستجابة للمتغيرات بصورة انية Reactive الى سياسية طامحة الى امتلاك ادراك متكامل لطبيعة التغيرات الاقليمية والدولية والعمل على تشكيلها ايضاً Proactive. وقد قطعت حكومة شينزو اَبي شوطا كبيرا في هذا الطريق حيث اضحت اليابان في هذه اللحظة على شفا قطيعة تامة مع سياسات ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وعليه الحديث عن اليابان كعملاق اقتصادي وقزم عسكري بدعوى وجود قيود دستورية ورأي عام ياباني ضاغط اصبح من التاريخ وعلى الباحثين في المنطقة استيعاب ذلك.

وسنبين لكم المحطات و المنعطفات التي قادت الى التحول التدريجي في السياسة الخارجية اليابانية خلال العقود السبعة الاخيرة

  1. 1. بادئ ذي بدء ينبغي التنويه ان نبذ العسكرة و النهج السلمي الذي تبنته اليابان بعد الحرب العالمية الثانية لا يمكن ايعازه حصراً الى الارادة يابانية لتجاوز الاخطاء والكوارث التي خلفتها الامبراطورية اليابانية في المنطقة على مدى قرن من الزمان. ولكن كان هناك دور كبير للدول التي تأثرت بالعدوان اليابني , مثل كوريا الجنوبية واستراليا و تايوان , التي مارست مارست ضغوطاً كبيرة على الولايات المتحدة لإبقاء اليابان كنمر بلا مخالب. وهو ما كان حيث نصت الاتفاقية الامريكية اليابانية على تولي الاولى مسؤولية حفظ الامن الخارجي للثانية , و عزز ذلك دستور ينص صراحة على ان تقتصر مهام القوات العسكرية اليابانية على القيام بإغراض دفاعية و ان لا يتم نشر هذه القوات خارج الحدود اليابانية بأي حال من الاحوال.
  2. ان جذور التحولات في السياسة الخارجية اليابانية يمكن تتبعها الى السنوات الاولى من عقد السبعينات, حيث حدثت جملة من المتغيرات والمفاجئات التي كانت بمثابة جرس انذار لصانع القرار الياباني بضرورة اعادة مراجعة اوليات السياسة الخارجية اليابانية ووضع حد لحالة الاعتماد الكلي و التماهي بين السياسة الخارجية اليابانية ونظيرتها الامريكية, الامر الذي كان سائداً طيلة سنوات الخمسينات والستينات. اولى المفاجئات التي هزت مراكز صنع القرار في اليابان كانت ما عرف في حينها “بصدمة نيكسون” بعد ان فوجئ اليابانيون بزيارة الرئيس الامريكي ريتشارد نيكسون الى الصين عام 1972 وما اعقبه من انفتاح الامريكي على الغريم التقليدي لليابان وبدون سابق انذار او تشاور مع الحليف الياباني. الصدمة الثانية كانت الحظر النفطي الذي قامت به الدول العربية تجاه الدول التي ابدت موقفا مساندا ودعمت اسرائيل خلال حرب تشرين 1973, والتي كانت لها عواقب جسيمة على الاقتصاد الياباني المعتمد بشكل كبير على مصادر الطاقة في المنطقة العربية. الدرس المستفاد من ازمة الحظر كان ضرورة تبني وصياغة موقف سياسي خارجي مستقل عن هذا المتبع من قبل الولايات المتحدة.
  3. مطلع عقد التسعينات هو الاخر كان عاصفا ودافعا لزخم اكبر من التحولات في السياسة الخارجية اليابانية. فقد شهد هذا العقد حدثين مفصليين بالنسبة لليابانيين وهما نهاية الحرب الباردة و اندلاع حرب الخليج الثانية. بقدر تعلق الامر بانتهاء الحرب الباردة, كان لغياب التهديد السوفيتي دورا في احياء مخاوف اليابانيين بقيام الولايات المتحدة بالتخلي عنهم وفك ارتباطهم الكلي بمنطقة شرق اسيا لانعدام مصدر الخطر والتهديد المشترك والذي كان التصدي له احد مرتكزات التحالف الامريكي الياباني. وعلى الصعيد الداخلي ساهم انهيار الاتحاد السوفيتي بانحسار دور الاحزاب اليسارية (الاشتراكية والشيوعية) في الحياة السياسية اليابانية وهيمنة اليمين على الجهاز التشريعي الياباني (الدايت) بمجلسيه. مما سهل تمرير قوانين متعلقة بنشر القوات اليابانية. اما عاصفة الصحراء فقد كشفت لليابانيين ان اعتماد سياسة خارجية ترتكز فقط على قوة اليابان الاقتصادية او ما كان يعرف بدبلوماسية “الشيكات” اثبتت فشلها. فعلى الرغم من مساهمة اليابان بما يزيد عن ثلاثة عشر مليار دولار كجزء من نفقات الحملة العسكرية إخراج العراق من الكويت, لم يقر اي طرف من اطراف التحالف بأهمية دور المتفرج الذي لعبه اليابانيون رغم كونهم احد اكبر المستفيدين من نفط الخليج. (حتى البيان الذي اصدرته السفارة الكويتية في واشنطن لشكر الدول التي ساهمت في حملة تحرير الكويت لم يأت على اسم اليابان).
  4. تسارعت وتيرة التغير في تسعينات القرن الماضي على اثر هذين الحدثين. حيث جرت اولى التعديلات التشريعية عن طريق تعديل فقرات في قانون قوات الدفاع اليابانية, وتفعيل قانون جديد يتعلق بصلاحيات وسلطات نشر القوات اليابانية في الخارج (قانون نشر قوات حفظ السلام). من الملاحظ ان هذه التشريعات وان لم تمس المادة التاسعة في حينها لكنها بدأت بحلحلة اسسها.
  5. سمحت التشريعات الجديدة للقوات اليابانية بالمشاركة في عمليات حفظ سلام شريطة ان يكون هناك وقف لاطلاق النار و اتفاق سلام تم اقراره بين الاطراف المتحاربة في مسرح العمليات. لكن تشريعا جديدا صدر في العام 1998 اسقط هذا الشرط. وبالفعل فقد تم نشر القوات اليابانية في عدة مهام خارجية خلال اعوام التسعينات في كمبوديا, كوسوفو وموزمبيق كجزء من مهمات حفظ السلام الدولي.
  6. احداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 اطلقت سلسلة جديدة من التشريعات والقوانين المتعلقة بمكافحة الارهاب بالاضافة الى منح رئيس الوزراء صلاحيات وسلطات خاصة في ما يتعلق بالامور الدفاعية. التعديلات الاخيرة هي تم الاعتماد عليها لتبرير مشاركة اليابان في حربي افغانستان والعراق على الرغم من عدم تفويض الامم المتحدة للاخيرة.
  7. وصول (شينزو آبي) للسلطة انذر بعهد جديد في السياسة الخارجية اليابانية بشكل عام والسياسات الامنية والدفاعية بشكل خاص. (شينزو آبي) الذي عاد الى السلطة في ديسمبر 2012بعد ان فقدها عام 2008 كان هدفه الرئيس هو الانتقال بالسياسة اليابانية من صيغتها القائمة على الاستجابة الانية للمتغيرات المحيطة (Reactive policy) الى سياسة استباقية تدرك مخاطر المستقبل وتستعد لها (Proactive policy). ثلاثة عوامل رئيسية كانت محفزة لاستراتيجية التحول التي شرع بها شينزو ابي وهي: صعود الصين كقوة رئيسة في المنطقة, تراجع نسبي للولايات المتحدة, واخيرا الخطر الكوري الشمالي.
  8. عام 2013 استحدثت (آبي) مجلس الامن القومي الذي اعطى رئيس الوزراء صلاحيات استثنائية في ما يتعلق بالتخطيط الامني والاستراتيجي بالاضافة الى تمكينه من تجاوز العراقيل البيروقراطية. في العام نفسه شرعت اليابان ما يعرف “بقانون اسرار الدولة” الذي يمكن السلطات اليابانية من حجب نطاق واسع من المعلومات التي ترى في كشفها تهديدا للامن القومي الياباني. في العام ذاته ايضا اطلقت اليابان استراتيجية الامن القومي الياباني التي صدق عليها مجلس الامن القومي الياباني والتي دعت صراحة تعزيز القدرات العسكرية اليابانية و الى ضرورة ان تصبح اليابان قطب موازن في ظل التحولات الاستراتيجية في اسيا الباسفيك.
  9. حزمة التشريعات التي اقرها البرلمان الياباني في سبتمبر عام 2015, والتي نص ابرزها على “احتفاظ اليابان بحق مساعدة الحلفاء الذي تتعرض قواتهم او اراضيهم للعدوان وتقديم الدعم اللوجيستي لبلدان منخرطة في صراعات وان كانت هذه الصراعات لا تمس اليابان بصورة مباشرة”, افرغت المادة التاسعة من الدستور الياباني من محتواها وصيرتها بلا معنى والتفت على القيود التي فرضتها هذه المادة.
  10. في العام 2014 رفعت اليابان الحظر القائم منذ الستينات على تصدير الاسلحة الى الخارج. اليابان اليوم تمتلك قاعدة عسكرية في جيبوتي لا يفصلها سوى عدة كيلومترات عن القاعدة الصينية في نفس البلد, وتشارك بحريتها بكثافة بعمليات مكافحة القرصنة في المحيط الهندي. بالاضافة الى ذلك فقد عززت اليابان وجودها العسكري في بحر الصين الشرقي على الرغم من حساسية هذه المنطقة بالنسبة بالصين ووجود جزر متنازع عليها ضمن مياه بحر الصين الجنوبي. اخيرا اليابان اقرت اضخم موازنة عسكرية في تاريخ البلاد وصلت الى 41 مليار دولار.

خلاصة القول ان اليابان اليوم ليس فيها من يابان ما بعد الحرب العالمية الثانية من شيء. وفيما يتعلق بالمادة التاسعة من الدستور الياباني فقد افرغت من محتواها بحكم الامر الواقع اولا (نشر القوات العسكرية اليابانية مرارا خارج الاراضي الياباني), وثانيا بحكم حجم التشريعات والقوانين التي تم اعمالها والتي تلتف بدورها على جوهر وغاية هذه المادة, ناهيك عن المؤسسات والأجهزة التي تم استحداثها ومنحنها صلاحيات استثنائية في ما يتعلق بالسياسات الدفاعية والامنية. اليابان اليوم حققت ما سعى الىه شينزو ابي ودعى الى اليه وهي ان تكون اليابان دولة “طبيعية” “”Normal , صانعة للاحداث ومبادرة للفعل بترسانة عسكرية متكاملة وبموازنة دفاعية ضخمة لا يفصلها عن مصاف القوى الكبرى سوى امتلاك السلاح الذري. و يجادل البعض انه لولا حادثة مفاعل فوكاشيما عام 2011 التي ولدت ردة فعل شديدة ونفور في اوساط الشعب الياباني حيال الطاقة النووية برمتها , لكنا نتحدث اليوم عن يابان نووية.