مقاربات سياسية في أولمبياد باريس 2024
التصنيف: مقالات
تاريخ النشر: 2024-08-27 10:42:25
زهير حمودي الجبوري
قسم الدراسات السياسية
مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية
اختتم في الحادي عشر من شهر آب في العاصمة الفرنسية باريس أكبر تجمع رياضي عالمي تمثل بدورة الألعاب الأولمبية الصيفية الثالثة والثلاثون بمشاركة (205) دولة مع فريق يمثل اللاجئين وتنافس فيها 10741 رياضيا بمختلف الألعاب الرياضية .
وعلى الرغم من أن الألعاب الأولمبية هي مناسبة وتجمع رياضي إلا أنه لا يخلو من أبعاد ملازمة أخرى حيث يشير شعار الألعاب المتمثل بالعلم الأبيض ذو الحلقات الخمس الملونة والتي تدلل على القارات الخمس آسيا، أفريقيا، أمريكا، أوربا و أستراليا، فعالم السياسة اقتحم عالم الرياضة وأخضعها لقوانينه عنوة ليؤثر على التنافس الرياضي البحت بدهاليز السياسة ومتطلباتها.
في عالم السياسة عرف مفهوم المقاطعة السياسية أو المقاطعة الاقتصادية التي تفرضها الدول على دولة معينة لمخالفيها القانون الدولي ، لكن هذه المقاطعة حضرت بقوة بصيغتها الرياضية في أولمبياد عام 1980 والذي استضافته موسكو عاصمة الاتحاد السوفييتي السابق حيث قاطعت 56 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية هذه الألعاب الأولمبية بحجة إقدام الاتحاد السوفيتي غزو أفغانستان وربطت الدول المقاطعة مشاركتها بوقف الحرب وانسحاب الروس من كابل.
وفي عالم السياسة يستخدم مفهوم المعايير المزدوجة في التعامل بين الدول عندما يعاقب المجتمع الدولي دولة ما على فعل ترتكبه بينما تسكت وتغض الطرف عن دولة أخرى ترتكب نفس الفعل وهذا المفهوم السياسي حضر في أولمبياد باريس حيث منعت روسيا من المشاركة في أولمبياد باريس بسبب حربها على أوكرانيا بنفس الوقت تم السماح للكيان الصهيوني بالمشاركة رغم حربه الوحشية والمدمرة على غزة وشعبها .
ومن أكثر المفاهيم شهرة في علم السياسة وعالمها هو القطبية في النظام الدولي حيث شهد العالم أطوار مختلفة من أشكال النظام الدولي أحادي القطب والذي هيمنت فيه أمريكا على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، أو ثنائي القطبية وهو ما شهده العالم أثناء الحرب الباردة بين القطبين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، أو نظام متعدد الأقطاب كما حصل في أوربا قبل الحرب العالمية الاولى بوجود عدد من الأقطاب الدولية المالكة للقوة والهيمنة، هذا التوزيع السياسي انتقل إلى عالم الرياضة وبشكل متزامن مع حدوثه في عالم السياسة، ففي حقبة الحرب الباردة لم يقتصر التنافس بين القطبين السوفيتي والأمريكي في ميادين السياسة والاقتصاد والتسليح بل امتد ليشمل الميدان الرياضي بقوة فكان سباق أوسمة الذهب والفضة والبرونز لا يقل حدة عن صراع الصواريخ النووية، وكان التنافس على ميادين الملاعب شبيها بالتنافس على مناطق النفوذ العالمية، وبقي هذا التنافس المحتدم حتى أولمبياد أتلانتا عام 1996 حيث غاب اسم الاتحاد السوفيتي وشاركت جمهورياته السابقة بمفردها كدول مستقلة لتهيمن أمريكا وحيدة على جدول الأوسمة كما هيمنت على النظام الدولي كقطب أوحد في العالم وأستمرت هذه الهيمنة الأمريكية مع دوام هيمنتها السياسية والعسكرية على العالم .
وشهد النظام الدولي في السنوات الأخيرة انحسار تدريجي لنفوذ القطب الاوحد الأمريكي مع بروز الصين كقطب دولي صاعد يملك كل مؤهلات القطبية ومقومات المنافسة والهيمنة عبر شراكات سياسية وتحالفات اقتصادية والولوج إلى مناطق نفوذ جديدة، كما كانت عودة الدب الروسي لنهوضه العسكري والاقتصادي جعل العالم على أبواب نظام عالمي متعدد الأقطاب وانتقلت سمات هذا التحول من عالم السياسة إلى عالم الرياضة وبان واضحا في نتائج جدول الأوسمة في أولمبياد باريس حيث تساوت الصين وأمريكا في عدد الأوسمة الذهبية ولكن التفوق الأمريكي بالأوسمة الفضية منحها صدارة الجدول، وبما أن الذهب دلالة على قوة أقتصاد الدول كونه يمثل الاحتياط المالي، فإن الصين الان تكافئ أمريكا أقتصاديا من خلال صناعتها المتنوعة وتحالفاتها الاقتصادية المتنوعة (تجمع بريكس ومنتدى شنغهاي)، وإذا رمزنا للأوسمة الفضية بالصناعة العسكرية فما زالت الولايات المتحدة الأمريكية هي المتفوقة على الصين وهي صاحبة السيادة وتسعى الصين إلى تقليل هذه الفجوة من خلال التقنيات الإلكترونية والسيبرانية التي تؤهلها لإحداث التوازن العسكري.
ولا تقف المقاربة إلى هذا الحد بل تذهب أعمق من ذلك فكما توجد مناطق نفوذ جيوسياسية خاصة لكل قطب مع مناطق نفوذ متنافس عليها بين الطرفين فهناك هيمنة أمريكية على بعض الألعاب بشكل كبير مثل ألعاب القوى التي هيمنها عليها الرياضيون الأمريكيون مثل هيمنة بلادهم على العالم بالقوة العسكرية، في حين هيمنت الصين على ألعاب الرماية والجمباز بنفس مهارتها في عالم السياسة حيث تصوب سهامها نحو المشاريع الاقتصادية الكبيرة مثل طريق الحرير وتتحرك في مسارات متعددة برشاقة لاعب الجمباز وحذره وخفته، وكما تتنافس الصين وأمريكا اليوم على الممرات المائية العالمية وخاصة في بحر الصين بتواجد عسكري وتنافس مشوب بالحذر، فإن سباقات السباحة الأولمبية شهدت تنافسا كبيرا بين الرياضيين الأمريكان والصينيين وأن بدت الأسبقية الأمريكية واضحة بالنتائج النهائية.
هذه القراءة هي مجرد مقاربة تمثل التنافس بين الأقطاب العالمية في المجال السياسي والمجال الرياضي قد تكون ساقتها المصادفة أو من صنع خيال الكاتب الذي يحاول أن يربط كل الاحداث وأن أختلف نشاطها وميدانها بجذر واحد هو دافع الهيمنة للدول الكبرى على كل مسارات الحياة.