بين عنف الدولة وعنف الجماعة

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2017-10-20 18:54:24

تثار عدة تساؤلات في سياق السعي نحو محاولة فهم عنف الجماعات المتطرفة التي اتخذت من بعض المدارس الاسلامية نقطة ارتكاز لتبرير عنفها، ومن بين أهم تلك التساؤلات التي تواجه الباحثين هو محاولة معرفة السبب الذي يفسر عدم ظهور هذه العصابات المتطرفة إسلامياً، إلا خلال نصف القرن الأخير بينما ظلت لمئات السنين غير منتظمة بتشكيل مسلح إلا بعد ظهور صراع المخابرات في المنطقة رغم وجود ما يصفه البعض بـ (العنف الاسلامي) وحديثهم عن العنف وكأنه أمر ملازم للإسلام بالمجمل بمختلف مدارسه وتأويلاته؟

وإذ يجادل البعض الآخر بكون الإسلام يتضمن مدارساً عديدة، وأن العنف لم يكن ملازما لكل الدول الاسلامية في مختلف مراحلها، فإن الفريق الأول يرد بالسؤال عما حدث خلال مراحل مختلفة من التاريخ الاسلامي من عنف وحروب ألم يكن عنفا إسلامياً؟

وللإجابة عن السؤال الأخير، يسعى هذا المقال الى مقاربة الموضوع عبر فكرة الدولة والتمييز بين عنفها المؤسَس على علويتها وبين عنف الجماعات الأخرى الذي يكون مواجهاً لعنف الدولة ومزاحماً لها، ويمكن القول أن الانعطافة الكبرى بالموضوع غير متعلقة بالفكر الإسلامي بذاته، بل متعلقة بكون العنف الذي مورس في الحقب التاريخية السابقة كان عنف دولة ولكنه تحول في زمن التفتت المعاصر الى عنف جماعات، لاختلاف السياق التاريخي، عنف الدولة يكون شرعيا بقدر انطباقه مع سياقه التاريخي ومعايير عصره الأخلاقية، مما يعني أن ما حدث خلال مختلف الدورات الحضارية التي مرت بها الدول الاسلامية طوال تاريخها وانتهاء بالعصر الحديث كان عنفا دولتيا – وقد سبق أن ناقشنا موضوعة عنف الدولة في مقال سابق –  كان عنف دولة وإن أسست تلك الدول المتعاقبة لنفسها عبر الاسلام.

أما عنف الجماعات الإسلامية الحاضرة فهو عنف لا نمطي وجزئي مؤسس على مدرسة دون أخرى، تغذيه الصراعات الدولية الحاضرة أكثر مما تغذيه الأفكار المتوارثة تاريخيا، هو عنف خاص، عنف لا يتعلق بنمط إدارة الدنيا، بل عنف مؤسس على الدنيا بوصفها معبر، وهنا يأتي دور بناة الاستراتيجيات الدولية الذين يوظفون معطيات موجودة مسبقا، لتنبثق في سياق جديد مختلف عن سياقها التاريخي والديني، الفرق الأساس هو أن العنف الذي مارسته الدول الاسلامية تاريخيا كان عنف مارسته الدولة مقابل عنف مماثل من دول أخرى بذات الطريقة، بينما يتمظهر عنف الجماعات الاسلامية المتطرفة الحاضرة بشكل عنف لا دولتي مهما أسبغ على نفسه سمة الدولة.

هناك فرق كبير بين قيم دولة وبين قيم تنظيم غير دولتي، الدولة تعني وحدة مركزية للقانون، وإطار جامع يمنع أن تكون هناك عصابات، وإذا تسائلنا هنا: ألم تكن الدول الإسلامية قاسية؟ فإن الإجابة المباشرة ستكون أن التاريخ يخبرنا بأن كل الدول القديمة كانت قاسية، ولم تطلع على بيان الأمم المتحدة لحقوق الانسان الذي يعد نتاج مجموع تجارب الانسانية خلال قرون طويلة

السؤال الذي انطلق منه المقال يركز على جزئية معينة لا تتطرق للدولة، هو يركز على طريقة نشأة هذه الجماعات في الحاضر، وهي تختلف عن طريقة نشأة الدول القديمة خلال عمر الحضارة الاسلامية، وفي هذا المقال فإن مسار فهم الموضوع يتخذ طريقا آخر، طريق يفترض أن الدول الاسلامية القديمة كانت متوافقة مع معايير عصرها، وأسست لنفسها بالتأويل والتفسير بما يحفظ عصبيتها بمفهوم ابن خلدون للعصبية، أي لرابط المواطنة، القاعدة الفكرية أو التراث الإسلامي الواسع فيه الطم والرم، فهل يتساوى المعتزلة بالحنابلة مثلا؟ رغم ان المعتزلة حين صارت لهم اليد العليا في الدولة قد مارسوا عقلانيتهم تلك بطريقة قاسية أيضا بدورها، وهي قسوة من ذات طبيعة الدولة، ممتزجة بشكلها وطريقة تكوينها، الدولة ليست كائن رحيم، لأنها من الأساس مُشَكَّلةٌ على مبدأ التنازل عن الحرية المطلقة بحثا عن الأمان، الدولة صلبة، شديدة، لنقل قاسية بطبعها.

كذلك فإن أغلب الحركات ذات الطابع الراديكالي في التاريخ الإسلامي القديم كانت ابنة مرحلتها وانتهى تأثيرها الفكري في زمنها، وهو ما حدث مع الخوارج والقرامطة على سبيل المثال، رغم أن كل واحدة من هذه الحركات أسست لنفسها دويلة ما، لكنها كانت خارج السياق الاجتماعي العام، وانتهت بطريقة أو بأخرى، القرامطة فنوا، والخوارج انتقلت آخر فرقهم من التاريخ العنيف والصدام مع مجمل المسلمين إلى دولة متعايشة متصالحة مع ذاتها ومع المذاهب الاسلامية الأخرى مثل سلطنة عمان التي يحكمها الخوارج الإباضيون الذين ضربوا مثالا نادراً على التسامح والنجاح في اجتياز التاريخ دون محوه.

هذه الحركات بالمجمل ليست ذات طابع تنظيمي دولتي، وهنا يتجلى الفرق الأساس بينها وبين الدولة، مهما اختلفنا بشأن الدول الاسلامية، فإنها تظل دولا بالمعيار القديم للدولة، وتظل تتحرك في عنفها ضمن إطار حفظ الدولة وتؤسس لنظريتها هذه إسلاميا، على عكس هذه الجماعات التي تتحرك ضمن إطار هدم الدولة، في الماضي كما في الحاضر، وهذا هو الفرق الأساس.

 

علي عبد الهادي المعموري

القسم السياسي