الدولة والاكراه الشرعي

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2017-10-20 18:50:57

لعل من أكثر الأمور التي تترك تداعيات سلبية على صورة الدولة والهوية الوطنية هو الالتباس بشأن فهم الدولة وما تنوي عليه وظيفتها الأولى تجاه المجتمع الذي تعاقد على إيجادها، وتشكل نظامها السياسي ليكون مظهر العلاقة بين الدولة والمجمتع، عبر تفرده بما يصطلح علماء السياسة على تسميته (الإكراه الشرعي)، وتهدف هذه السطور إلى تقديم عرض مختصر عن مفهوم الاكراه الشرعي يكون بمتناول العاملين في المؤسسات ذات العلاقة، بملاحظة غموض المصطلح بالنسبة للبعض، وسعيا الى تبيان مركزية الدولة في حفظ الأمن كشرط أساس لطاعة الأفراد للدولة عبر الإذعان للقوانين التي تسير نظامها السياسي وهو ما سنتناوله ضمن الفقرات التالية.

أولا: العقد الاجتماعي (الدولة بوصفها حامية).

يفترض الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز في كتابه الليفيثان أن الانسان مخلوق أناني يسعى الى حفظ حياته بأي ثمن، ونتيجة لإدراكه لعجزه عن حماية نفسه بمفرده، فإنه يتعاقد مع نظرائه الآخرين ليصنع كيانا حاميا، يوفر له الأمن بوصفه فرد ضمن مجتمع، وهذا يقود الى أن يوقع عقدا اجتماعيا يوجد الدولة، يتنازل الفرد ونظرائه ـ بموجب هذا العقد ـ عن جزء كبير من حرياته، وعن تنظيم شأنه العام لصالح الدولة بمقابل أن توفر الأخيرة له الأمن.

وعلى هذا الأساس عرّف ماكس فيبر الدولة بكونها “الجماعة التي تتبنى بنجاح، في إطار حدود معينة، احتكار العنف ـ أو الإكراه ـ الجسدي المشروع”.

وعند هذه النقطة، وقبل التطرق الى معنى العنف الجسدي المشروع الذي أشار له ماكس فيبر، ينبغي التطرق الى دور المجتمع في الأمن وفق هذه الفرضية، ويمكن القول أن دوره ـ المجتمع ـ يكون بالدرجة الإساس بالإيفاء بجانبه من العقد، وهو الطاعة للقوانين، والإذعان للتنظيمات التي تنبع من الدولة عبر النظام السياسي، حيث تكون تلك التنظيمات بمختلف مستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية مجتمعة آليتها للإيفاء بجانبها من العقد، وهو: الأمن.

وهذا يعني ان الدولة وبقدر ما يجب ان توفر الأمن فإنها بالمقابل تحتاج الى رضا المجتمع عنها وتنازله عن تنظيم شأنه العام لصالحها، حيث يكون حق التقاضي والعقوبة وحمل السلاح محصورا بيدها، وكلما ضعفت قدرة الدولة عن إثبات حقها بالتفرد بما ذكر لها، قفزت بنى ما قبل الدولة (دينية، عشائرية…الخ) الى الواجهة لتقوم بوظيفة تنظيم الشأن العام وحماية الأفراد.

ثانيا: معنى الإكراه الشرعي.

من المهم هنا الالتفات إلى اللبس الذي قد يقع بين “الإكراه” و”العنف” بوصفهما شرعيان، وفي هذه العجالة، نذهب الى استعمالهما كمترادفين، فالإكراه في اللغة (وأَكْرهْتُه: حَمَلْتُه على أَمْرٍ هو له كارهٌ) كما جاء في لسان العرب لابن منظور، وكره فعل الشيء يتضمن مقاومته، ومقاومته تنطوي على معنى من معاني العنف، والنتيجة أن الإكراه الشرعي يحتمل في طيته عنفا، بما يجعل استعمال المعنيين في هذا السياق متناغما.

بالتأسيس على ما سبق، يصبح تنظيم الشأن العام للمجتمع وأفراده مرتكز على احتكار الدولة لحق إصدار القوانين التي هي قواعد تنظيمية، وما يميّز القوانين أنها تكون ملزمة، يُكره الفرد على طاعتها ضمن مجتمعه، وهي تكتسب قوة الالزام من شرعية الدولة، وتأخذ طريقها ـ القوانين ـ الى الرسوخ في المجتمع عبر تضمنها القدرة على إرغام الأفراد بأن يلتزموا بأحكامها، لوجود آثار جزائية تترب على مخالفتها، آثار لها طابع عنيف، بمعنى القدرة على استخدام السلاح، بما يتضمنه استخدام السلاح من عنف، والعقوبات المؤذية التي قد تصل الى سلب الحياة بالإعدام سعيا إلى ردع الفرد عن مخالفة القانون في سبيل حفظ الأمن، ولكنه عنف شرعي، لأنه نابع من الدولة، عبر نظامها السياسي، لحفظ النظام العام وحماية تماسك المجتمع، بعبارة أكثر تحديدا: حفظ الأمن، واجب الدولة الأول، الذي يمثل جانبها من العقد السياسي والاجتماعي، ولهذا يكون عنفا شرعيا، لأنه متفق عليه من قبل المجتمع، المجتمع المكوّن للدولة منحها الحق والشرعية بأن تتخذ هذه الإجراءات لحفظ أمن المجتمع.

 

ثالثا: الدولة العراقية والإكراه الشرعي

لا يمكن في الوقت الحاضر أن نتجاوز التعقيد الذي يكتنف الواقع العراقي، وتشتت موارد الدولة السياسية والعسكرية في عدة اتجاهات، كنتيجة للحرب الوطنية ضد تنظيم داعش الإرهابي، والأدوار المهمة التي لعبتها قوى قد تصنف بالمعيار الاكاديمي بأنها تندرج ضمن (بُنى ما قبل الدولة) في حفظ العراق واستعادة زمام المبادرة في الحرب ضد التنظيمات الإرهابية.

ولكن ذلك لا يعني أن تكف الدولة بالمطلق عن سعيها الى ان تكون الحامية والمتفردة، الذي قد يكون من أولى الأولويات التي ستتصدر مرحلة ما بعد داعش واندحارها على أيدي العراقيين، بما يتطلب عودة موسعة الى النقاش للإجابة على هذا السؤال.

 

القسم السياسي

علي المعموري