الدولة العراقية في في الرؤية الخلدونية - العصبية بوصفها هوية

التصنيف: مقالات

تاريخ النشر: 2018-06-06 16:40:28

علي عبد الهادي المعموري

قدم عبد الرحمن بن خلدون في المقدمة رؤية عميقة عن نشأة الدولة، حين ربطها بما أسماه العصبية، الروابط التي تشد أفراد أمة الى بعضها، تمنحهم التماسك، وتصنع لهم  المُتَخَيَّلُ الذي تتمحور حوله ذاتهم الجمعية، ليمضوا قدما في مسيرتهم التاريخية صانعين ومؤثرين ومتأثرين بالتاريخ، فاعلين ومتفاعلين.

وجد ابن خلدون أن الأمة التي تتمتع بعصبية قوية تتمكن من بناء دولتها، وتشييد حضارتها، لتكتسح في مسيرها الجارف كل ما يعترض طريقها، حتى تصل الى لحظة الطمأنينة، فتشيد مدينتها، وتؤسس معالم مدنيتها، وتتضح معالم (العمران) فيها، العمران بمفهومه الخلدوني الذي يعني المجتمع، وعلم الاجتماع.

وفي سنواتها الأولى، تكون الدولة الوليدة دولة صلبة قاسية، خشنة قادرة على الدفاع عن نفسها، والمطاولة أمام الظروف، ومناجزة الأعداء، سادرة في اختطاط مستقبلها، وتعزيز حاضرها بكل ما يتطلبه الأمر من عناصر القوة، وهي تنجح بذلك لأن رجالها ممن تمرس في الظروف الخشنة، بناة اعتادوا جشب المأكل وغليظ الملبس، فكيفوا أنفسهم للبقاء رغم ظروف الرخاء التي أحاطت بهم بعد أن أسسوا دولتهم، يعرفون كيف يتعاونون فيما بينهم، ويكون همهم حماية من هم بظلهم وتحت رياستهم، تكون المؤامرات شبه معدومة، والرياسة تكليف مضنٍ وليست زعامة رخية.

في المرحلة التالية يتسلم المسؤولية الجيل اللاحق، جيل ولد في الرخاء، وعايش زمان عز دولته، ومنعتها، وتوفر احتياجاتها، ولكنه بذات الوقت جيل تربى على أيدي البناة الغلاظ، المقاتلين الشداد، فتعلم منهم كيف يحمي نفسه، وكيف ينجوا، وإن ذاق حلاوة العيش ورغد الحضارة، هذا الجيل يعد جيل البناء الحضاري الحقيقي، في عصره تقوى سياسة الدولة، وتتعزز هيبتها وعلاقاتها، ويزدهر العلم، والفنون، وتطيب معايش الناس، لاجتماع القوة والرخاء، وتماسك البنيان الاجتماعي، وقيام كل امرئ بواجبه.

الأجيال التالية، التي ولدت في الحضارة والرخاء، ولم تخالط القساة الأوائل، هذه الأجيال تحمل معها بذور فناء الدولة بتناقص همة أبنائها، تدريجيا، وبتخبط رجالها، وطمعهم، وصراعهم على السلطة والمال فيما بينهم، دون أن يتلفتوا الى ما يستجلبه هذا الصراع من شرور تأتي على دولتهم برمتها، وتبادر كيانهم بكليته، تزدهر المؤامرات، وينشط الطامعون والوشاة، تُزَّيف الأخبار، وتزين لكل متسلط سيرته، ويغيبه الخواص عن أمر العامة وأمر الدولة، حتى يظن أن سلطانه مستقيم، ولكن الحال أنه في أردأ حال، وفي عجز وهوان عن حفظ أمر بلده، ورعاية مصالحه، يغيب عن الوعي السياسي فلا هو أصلح حاله، ولا هو أصلح بلده.

ومن الجلي أن ابن خلدون هنا يفترض أن الحياة صراع مستديم، وإن الأمم في ولادة وفناء، وأن الأمة التي قامت بعصبية أوائل أهلها ليست ببدع بين الأمم، وأن هناك مثلها من يشابهها، ويطمح بموقعها واختطاف مكانتها، فتبدأ دولتنا القديمة تلك بمواجهة الأمم الناشئة هذه، وتتعرض لما عرَّضت له من قبل تلك الأمم، ورويدا، وما لم تتدارك نفسها بما يطيل أمد بقائها فإنها تفنى وتكتسحها أمة أخرى كما فعلت هي من قبل.

وهنا نتسائل، أين العراق اليوم من هذه الفرضية الخلدونية التي تجد في الدولة كائنا ينمو ويهرم؟

سنجد أن (العصبية) الخلدونية تلك مرادف للهوية الوطنية، التي تجمع الأمة في رابط معنوي يشد عنفوان أبنائها ويربطهم ببعضهم، يمنحهم الشعور بالانتماء الى الدولة، الأمر الذي تأرجح طوال عمر الدولة العراقية الحديثة، ولم يكتمل، فتكاد تجد العراق نادرا ما يستقر، هو في صراع عصبيات محلية دائم تزاحم العصبية الجامعة له، ما أن تستقر الحكومة وتبدأ معها الدولة بالاستقرار والتشكل، إلا وزعزت عصبية طامحة استقرارها، وزاد الطين بلة أن العصبيات تلك متعددة، محلية وإقليمية ودولية، كلها تجد في العراق، في الدولة العراقية مطمع لها، تريد الهيمنة عليها والسيطرة على مقاليدها، بما ينفعها وتنتفع به بمفردها، دون أن يكون للعراق من الصراع نفع ومن الحرب والمناجزة استراحة.

وفي المدد الماضية، كان دور المطامح الشخصية، والمؤامرات، والدسائس، والمعلومات المغلوطة، وتزييف الحال، وبث طمأنينة كاذبة، تكاد أن يكون سمة وملمح لا يفارقان حالات ترنح الدولة العراقية الحديثة بترنح نظامها السياسي، وبتخبط رجال دولتها، وضعف عصبيتهم الجامعة، فتجد الحكومة عاجزة إذ لا تعرف أي ضربة تصد، وأي جبهة تتقي، وأي مشكلة تعالج، الأمر الذي ورثته ديمقراطيته الوليدة بذات القسوة، والحال أن أساس المشكلة كلها هو ضعف الرابط الأساس الذي ينشئ عقد الدولة الاجتماعي، فإذا اختلفت أمة في اسمها، وفيمن هي، كيف لها أن تلتفت الى القيام بشأنها وتدبير أمرها، كيف تعالج مشاكلها ومصائبها، وطمع الأمم من حولها بها، بما جعل النظام السياسي بموقع المحارب على جبهات متعددة، لا يدري أي مشكلة يحل، وبأي معضلة يبدأ، وازداد صخب الهويات الفرعية حتى عجزت عن الأكل مما تزرع، واللبس مما تصنع، لا تعرف كيف تدير مواردها، ولا كيف تنفق مالها في مواضعه، فتخسر مياهها، ويقضم جوارها من أراضيها وهي حائرة بنفسها لا تدري من هي.

والخلاصة من كل ما سبق، أن العراق الحديث لم يمر لحد اللحظة بمرحلة صنع (عصبيته الجامعة)، هويته الوطنية، بما يستديم بقائها، ويلم شتات أبنائها، ويضع العراق على معرفة ذاته، وما يحتاجه ليعيش وينمو، مثل أي دولة أخرى.